بنات النبي صلى الله عليه وسلم هنَّ: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهنَّ، وكلهن من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وهكذا هو ترتيبهنَّ، قال ابن عبد البر: “والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء”. وقد توفيت زينب ورقية وأم كلثوم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولحقت فاطمة به بعد وفاته بستة أشهر.
فأمَّا رقية رضي الله عنها: فقد زوجها النبي صلى الله عليه وسلم من عتبة بن أبي لهب، وأما أم كلثوم رضي الله عنها زوَّجها صلى الله عليه وسلم من عتيبة بن أبي لهب. والذي جاء في كتب السيرة النبوية أنهما (عتبة وعتيبة) طلقاهما قبل دخولهما عليهما، وذلك بأمرٍ من عدو الله أبي لهب، وكان ذلك في العام الرابع للبعثة النبوية، حين جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، فاغتاظ أبو لهب فأساء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن العداوة له، فأنزل الله عز وجل في حقه وحق زوجته: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(المسد: 1)، فطلب أبو لهب وزوجته أم جميل من ابنيهما تطليق بنتي النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن سعد في الطبقات، عن قتادة رضي الله عنه قال: “(تزوج أمَّ كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبةُ بن عبد العزى ابن أبي لهب، فلم يبْنِ (يدخل) بها حتى بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت رقية ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت عتبة أخي عتيبة، فلما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد!. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية، وسألته رقية ذلك، فقالت له أمه – وهي حمالة الحطب -: طلقها يا بني! فإنها قد صبأت، فطلقها، وطلق عتيبةُ أمَّ كلثوم، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث فارق أم كلثوم وقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه، فشق قميص النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج نحو الشام تاجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني أسأل الله تعالى أن يسلط عليك كلبا! فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا بمكان من الشام يقال له الزرقاء ليلًا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي! هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ، ألا! قاتلي ابن أبي كبشة (والد النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة) وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم، فأخذ برأسه فضغمه ضغمة فقتله، فتزوج عثمان بن عفان رقية رضي الله عنها فتوفيت عنده، ولم تلد له). قال زهير بن العلاء: فحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن الأسد لما أطاف بهم تلك الليلة انصرفوا فناموا وجعل عتيبة وسطهم فأقبل الأسد يتخطى حتى أخذ برأس عتيبة فدغمه، وخلف عثمان بن عفان بعد رقية على أم كلثوم رضوان الله عليهما”.
قال ابن عبد البر: “وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت (زوجة) عتبة بن أبي لهب، وكانت أختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}: قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد، وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما”. ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه تزوج رقية بمكة، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له هناك ولدًا فسماه: عبد الله وبه كان يُكنى. ولما سار النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى بدرٍ كانت ابنته رقية رضي الله عنها مريضة، فتخلَّف عندها عثمان رضي الله عنه بأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فماتت في العام نفسه، ثم زوَّج النبي صلى اللَّه عليه وسلم عثمان رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها، ولم تلد منه ولداً.
وفي ذلك يقول صاحب قرة الأبصار:
وأُنكحت رقية عتيبة وأم كلثوم أخاه عتبة
فطلقاهما معاً إذ نزلا تبت فتبَّاً لهما إذ فعلا
ثم تزوج ابن عفان الرضى رقية أتت بنجل فقضى
وهو ابن ست بعد موت الأم في سنة اثنين بغير وهم
وأنكح الأخرى بدون مين ومن هنا لقب ذا النورين
فائدة:
زواج المسلم بالكافرة، والمسلمة بالكافر لم يكن محرماً، وكان مباحاً في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل تحريم ذلك متأخراً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}(الممتحنة :10)، قال ابن كثير: “وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة”.
وقال الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(البقرة:221) . قال السعدي: “أي: {وَلا تَنْكِحُوا} النساء {الْمُشْرِكَاتِ} ما دمن على شركهن {حَتَّى يُؤْمِنَّ} لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ولو بلغت من الحُسن ما بلغت، وهذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة، في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وهذا عام لا تخصيص فيه. ثم ذكر تعالى الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة، لمن خالفهما في الدين فقال: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي: في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم، فمخالطتهم على خطر منهم، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية، إنما هو الشقاء الأبدي”.
ولما كان زواج المسلم بالكافرة، والمسلمة بالكافر مباحاً في بداية البعثة وأول أمر الإسلام، فقد كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه لابني أبي لهب أمراً عادياً ولم يكن مُسْتغرباً ولا مُسْتشكلاً، وكان طلاق رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما قبل الدخول بهماً، كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابنَيْ أبي لهب. وكذلك كانت زينب رضي الله عنها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زوجة لأبي العاص وكان كافراً، وقد فرَّق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم بسبب كفره، ثم لما أسلم جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما.
لقد تعدَّدت صورُ الإيذاء التي قامت بها قريش في مكَّة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي أبو لهب وامرأته أمّ جميل (حمالة الحطب) أروى بنت حرب في مقدِّمة مَن حملوا راية هذا الإيذاء، وقد بدأت عداوتُهما مبكِّرةً منذ إعلان الدَّعوة والجهر بها، وإمعاناً في إيذائهما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر أبو لهب ابنَيْه عُتبة وعُتَيبة بتطليق ابنتَيْ النبي صلى الله عليه وسلم ـ رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما ـ فقاما بتطليقيهما، فأبدلهما الله عز جل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، قال النووي: “وكان له صلى الله عليه وسلم أربع بنات: زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد. وفاطمة تزوجها عليّ بن أبى طالب رضي الله عنه. ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، تزوج رقية ثم أم كلثوم وتوفيتا عنده، ولهذا سُمِّىَ ذا النورين، تُوفيَت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة”.