اخلاق النبي

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلَّم

بسم الله الرحمن الرحيم

مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، رحمته صلى الله عليه وسلَّم ،
قال تعالى :

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

[سورة الأنبياء]

الله خلقنا لكي يرحمنا :

الرحمة أيها الإخوة كلمةٌ جامعةً لكل الخير ؛ المادي والمعنوي ، الدنيوي والأخروي ، فكل أنواع الخير المادي ، والمعنوي ، الدنيوي ، والأخروي مجموعٌ في كلمة الرحمن ،
فقد قال الله عزَّ وجل :

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)

[سورة هود : من آية 119]

ينبغي أن تعتقد ـ وهذا جزءٌ من العقيدة الصحيحة ـ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه ، فإذا رأيت إنساناً معذَّباً فهذه حالةٌ طارئة ، حالةٌ استثنائيَّة اقتضت المُعالجة ، فالأصل أن الإنسان خُلِق ليُرحم ، أما إذا شذَّ عن الطريق ، واستوجب العقاب ، يأتي العقاب لا انتقاماً ، ولا تشفياً ، ولكن يأتي العقاب إصلاحاً وحملاً له على التوبة ،

الله أرسل نبيه رحمة للعالمين :

أما أن يقول الله عزَّ وجل :

إقرأ أيضا:شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وبعض صفاته

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

[سورة الأنبياء]

أي أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم لجميع العالمين ، والعالمين جمع عالَم ، أرسله رحمةً للمؤمنين ، ورحمةً للكافرين، ورحمةً للمنافقين ، ورحمةً لجميع بني الناس ، ورحمةً للرجال ، والنساء ، والصبيان ، والطير ، والحيوان ، فهو رحمةٌ مهداة ، ونعمةٌ مزجاة كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم .
أيها الإخوة الكرام … هذا كلامٌ دقيق وخطير ، وله أبعادٌ إن فهمناها حق الفهم ربَّما تركت أثراً واضحاً في حياتنا ، أما رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالمؤمنين فبهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وباهتمامه لما يُصلح أمرهم في الدنيا والآخرة ، وتحذيره إيَّاهم مما يفسد عليهم دنياهم وأخراهم، هذه رحمته بالمؤمنين ،
قال تعالى :

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)

[سورة التوبة]

وقد فرَّق العلماء بين الرأفة والرحمة ، والفرق هو أن الرأفة تمنع ما يؤذي ، لكن الرحمة تجلب ما ينفع ، فهو صلى الله عليه وسلَّم ..

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)

رأفته تقتضي أن يحذِّرهم من كل ما يؤذيهم في دنياهم وأخراهم ،
ورحمته تقتضي أن يجلب لهم الخير في الدنيا والآخرة .

إقرأ أيضا:هدي النبي في العدل بين المرؤوسين

أولاً: رحمة النبي بالمؤمنين فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم :

أيها الإخوة الكرام … الآن دخلنا في موضوع دقيق ،
الله جلَّ جلاله يقول :

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

[سورة الأحزاب : من آية 6]

كيف نفسِّر هذه الآية ؟

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

1. عندما تطبق سُنَّته عاد عليك الخير كله :

تعني أنه مهما تصوَّرت ، ومهما توهَّمت ، ومهما تخيَّلت ، بل ومهما اعتقدت ، ومهما تيقَّنت أن صالحك في هذا الطريق ، أو في هذا الجانب ، ورأيت حديث رسول الله ينهاك عن هذا الطريق، ويأمرك بهذا الطريق ، هو أولى بك من نفسك ، إن طبقت أمره ، وطبقت سُنَّته عاد عليك الخير كله ، مهما حاولت أن تفكر ، وأن تتفنَّن في تشعيب الأمور ، ورأيت مصلحتك في ترك السُنَّة ، إن مصلحتك كل مصلحتك ، إن فوزك كل الفوز ، والتفوُّق كل التفوق ، والفلاح كل الفلاح في تطبيق السنة.

2. لا تعتقد أن أمره يقيِّد من حريتك ، ولكنه يضمن سلامتك :

طبعاً هذا قد يكتشفه الإنسان بعد فوات الأوان ، أما إذا عرفه وهو شاب ، أي بماذا أمرنا النبي ؟ عن أي شيءٍ نهانا عنه ؟ لا تعتقد أن تكون مصلحتك بخلاف أمره ونهيه ، لا تعتقد أن أمره يقيِّد من حريتك ، ولكنه يضمن سلامتك ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :

إقرأ أيضا:من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم شجاعته

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

فهل هناك من إنسان أحرص على ذاته من نفسه ؟ هل هناك من إنسان أحرص على سلامة وجوده من ذات الإنسان ؟ على استمرار وجوده، على سلامة وجوده ، على كمال وجوده ، على بقاء وجوده ، لو قرأت سُنة رسول الله القولية والعملية ، واتبعت سُنته القولية ، وتأسيت بسُنته العمليَّة ، لوجدت أن كلمته هي وحدها ولا شيء سواها يحقق لك سعادة الدنيا والآخرة .
لكن حتى يكون الكلام واضحاً الحياة فيها امتحانات ، لولا أنه يبدو لك أن خيرك في مخالفة السنة لما كان لك أجرٌ في اتباع السُنة ، لولا أنه يبدو لك للنظرة الأولى أن الخير في هذا الطريق والنبي نهاك عنه ، ما كان لك من أجرٍ ولا ترقى باتباعك السُنة ، شيء طبيعي جداً أن تختلف الظواهر مع الحقائق ، لو أنها تطابقت لأُلغيت العبادة .

3. لولا تناقض الظاهر مع الحقيقة لما كانت العبادة:

فمثلاً لو أن الكسب الحلال سهلٌ جداً ، وأن الكسب الحرام صعبٌ جداً ، لأقبل جميع الناس على الحلال لا حباً في الله ، ولا طمعاً برحمته ، ولا تقرُّباً إليه ، ولا تمنِّياً لدخول جنَّته بل لأنه سهل ، معنى ذلك أن العبادة أُلغيت ، لكن شاءت حكمة الله أن يجعل الحلال صعباً والحرام سهلاً ، هنا الامتحان ، لولا أن الظاهر يتناقض بعض الشيء مع الحقيقة ، الظاهر ، لما كان من عبادة ، ولما كان من رقي ، لذلك الإنسان العاقل ما الذي يرفع قدره عند الله ؟ إنه يسارع إلى تطبيق أمر رسوله من دون أن يجري محاكمةً حول الخسائر والأرباح ، شأن المؤمن ..
قال الله تعالى:

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)

[سورة الأحزاب : من آية 36]

أي أن شأن المؤمن إذا دعي إلى تنفيذ أمر الله يقول : سمعنا وأطعنا ، لعلمه أن هذا الأمر فيه كل الخير، وفيه كل السعادة ، أضرب لكم مثلاً ، أو أوضِّح لكم هذه الحقيقة من خلال آيتين،
الله عزَّ وجل قال :

(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)

[سورة البقرة :من آية 5]

على تفيد العُلو ، أي أن هذا الهدى الذي في حقيقته كلُّه قيود ، فحياة الكافر تفلُّت كامل ، ما في عنده شيء حرام أبداً ، ما في شيء ممنوع ، ما في شيء ما يصير ، يأكل ما يشاء ، يذهب إلى أي مكانٍ يشاء ، يلتقي مع من يشاء ، يمتِّع بصره بمن يشاء ، كل شيء يمارسه ، يقول لك: أنا حر. المؤمن في عنده منظومة قيَم ، ومجموعة من الأوامر والنواهي كبيرة جداَ ، هذا حرام ، هذا مكروه ، هذا يجوز أو لا يجوز ، هذا يرضي الله ، يسخط الله ..

(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)

الذي اهتدى الهدى يرفعه ، مع أن الهدى كله قيود ،
وقال الله أيضاً:

(أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)

[سورة الزمر]

والضَّال دخل في شيء ، دخل في قيْد ؛ إما أنه دخل في السجن ، أو دخل في كآبة ، أو دخل في قلق ، أي هو دائماً مع طلاقته يقيِّده الشقاء ، ومع قيود يسعده الإيمان ويطلقه ..
قال الله تعالى:

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)

[سورة المدثر]

لذلك هذا معنى قول الله عزَّ وجل :

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

اعتقد هذا ، اعتقد اعتقاداً جازماً السُنة في هذا ، السنة في أن تستقيم، في أن تصدق ، في أن تفي بالعهد، في أن تُنجز الوعد ، في أن تكون عفيفاً ، في أن تتحرَّى الحلال ولو كنت في فقرٍ مدقع ، في أن تضع قدمك فوق الحرام ولو كان بالملايين ، هذا الإيمان .

4. النبي يتولى سداد دين من مات وكان فقيراً وكذلك يتولى أولاده :

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ

الحقيقة هذا الحديث له مجال آخر ، هذا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام لا يتحدَّث عن نفسه كنبي ، لكنه يتحدث على نفسه على أنه وليّ أمر المسلمين ، النبي مقام ديني ، أما ولي أمر المسلمين مقام زمني ـ إن صحَّ التعبير ـ لذلك ولي أمر المسلمين يجب أن يتحمل عن رعيته كل تبعاتهم ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ، أما إن ترك مالاً فلورثته ، فالمواطن المسلم إذا اغتنى تغتني بغناه الدولة ، وإذا افتقر تفتقر، أحياناً حينما يُكلَّف الإنسان فوق طاقته عندئذٍ ينسحب من الحياة ، لا يعمل ، لا ينتج ، هذه القضية متعلِّقة بالنظام الاقتصادي، ونظام متعلِّق بالسياسة الشرعية ، فأي مؤمنٍ ترك مالاً فلورثته ، ترك ديناً أو ضياعاً أو عيالاً فليأتني فأنا أولى الناس به .
النبي في هذا الحديث الشريف يتحدث لا على أنه نبيٌ مرسل ، بل على أنه ولي أمر المسلمين ، فكل مجتمع عندما يغتني ، القائمون على هذا المجتمع يغتنون بغناه ، أما إذا أُفقِر الإنسان أُلغيت القوة الشرائية ، هذه قاعدة عامة ، فلو فتحنا مؤسَّسة في بلد فقير لا تربح إطلاقاً ، أنَّا لها أن تربح ، لا توجد قوة شرائية ، لا يوجد مال مع الناس ، أما إذا اغتنى الناس فأي مشروع ينجح ويربح ، وتأتي الدولة فتأخذ الضرائب من هذه المؤسَّسات الناجحة ، لذلك هذا الحديث متعلِّق بالسياسية الشرعيَّة ، أي أنه إذا اغتنى المواطن تغتني معه كل شيء ؛ تغتني معه المؤسَّسات ، تغتني فيه المشروعات ، تغتني الدولة كلها ، فهذا الحديث يعلمنا الشيء الكثير ، أن ولي أمر المسلمين ينبغي أن يسعى لإغناء رعيته ، فإن اغتنوا اغتنت الدولة بغنى الرعيَّة .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:

أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْ مَالَهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانَ

هذه رحمته بالمؤمنين ، حرص على سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وحذَّرهم مما يفسد سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وأمرهم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة ، وهو أولى بهم من أنفسهم ،

5. يجب أن تعتقد أن كل النجاح والفوز بأن تتولى أمر الرسول:

أدق نقطة في الموضوع أن المؤمن العميق الإيمان يعتقد أن كل مصلحته ، وكل فوزه ، وكل نجاحه، وكل سعادته ، وكل تفوّقه في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام .
لا تفكِّر أبداً تنجح بخلاف شريعة الإسلام ، لا في حياتك الخاصة ، ولا حياتك الزوجية ، ولا في حياتك الاجتماعية ، ولا في تجارتك ، ولا في أعمالك كلها ، حتى الإنسان أحياناً يخالف السنة ويطيع من هو أقوى منه، كأن يقول : الآن أنا مضطر تلافيت الشر . هذا الذي أطاعه وعصى الله عزَّ وجل لابدَّ أن يسخط عليه ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ومن أعان ظالماً سلَّطه الله عليه

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:

مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه

[من سنن ابن ماجة : عن أبي هريرة]

ولا يوجد أخ ما عنده تجارب سابقة ، كأن يكون عمل عملا تمليه عليه مصالحه ، فتساهل في تطبيق السُنة ، دفع الثمن باهظاً ، أبداً .

ثانياً: رحمة النبي بالمنافقين :

أما برحمته بالمنافقين فبالأمان من القتل والسبي نظراً لظاهر إسلامهم في الدنيا . أي هم تزيّوا بزَي الإسلام، وأظهروا الإسلام وأخفوا الكفر ، فهذا الذي أظهروه حماهم من أن يعاملوا كالكفار ، هذه رحمة النبي بهم،

وكما علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر والله يتولَّى السرائر

ثالثاً: رحمة النبي بالكفار :

أما رحمته بالكفار كيف ؟
برفع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا ، فمن علامات قيام الساعة ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ هلاك العرب لا هلاك استئصال ولكن هلاك ضعف وتمزُّق . فكأن الله سبحانه وتعالى ضمن للنبي عليه الصلاة والسلام من أن يهلك أمَّته إهلاك استئصال، فقوم عاد ، وثمود ، وتبَّع ، وقوم لوط أُهلِكوا هلاك استئصال ..
قال الله تعالى:

(فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)

[سورة الحجر : من آية 74]

لكن ما القصود بأمة النبي عليه الصلاة والسلام : هناك أمة الاستجابة ، وهناك أمة التبليغ طبعاً إذا قلت : أمة النبي الآن أقصد الأمة التبليغ فكل إنسان بحكم ولادته ، وبحكم والديه ، وبحكم مكان ولادته ، كان من أبوين مسلمين هذا من أمة التبليغ ، قد يكون علمانياً ، قد يكون مُلحداً لكن هو من أمة التبليغ ، هذا الذي كفر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة النبي له أنه لا يهلك هلاك استئصال ، بل يعذَّب عذاب معالجة ، هذا من رحمة النبي بالكفار .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى : ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ?

من آمن تمَّت له الرحمة في الدنيا وفي الآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم من عاجل الدنيا من العذاب ، من المسخ، والخسف ، والقذف

أما قول الله عزَّ وجل :

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

[سورة الأنفال : من آية 33]

أي مادامت سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم مطبَّقةً في حياتهم فالله لا يعذبهم ، لِمَ يعذبهم ؟ يعذبهم إذا خالفوا منهج الله ، أما إذا طبَّقوا سنة النبي فهم في أمانٍ من أن يعذَّبوا ، إذاً وَأَنْتَ فِيهِمْ تعني وأنك بين ظهرانيهم في حياتك ، وشريعتك في حياتهم بعد مماتك ..
المعنى الآخر ، معنى رحمته بالكفار ـ أن النبي صلى الله عليه وسلَّم ما دام مُرسلاً إلى هذه الأمة فلن تُهلك هلاك استئصال ،
ولكن كيف نوفِّق بين هذه الآية وبين قوله تعالى :

(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)

[سورة الأنفال : من آية 34]

هناك عذاب إفرادي ، عذاب فِئَوي ، أما عذاب شامل لا يوجد ، فهذه الآية تشير إلى العذاب الفردي ، فالإنسان الله عزَّ وجل يعالجه أحياناً ، يضيِّق عليه ، أما أن يهلك الأمة إهلاك إبادة ، إهلاك استئصال هذا مما ضمنه الله للنبي تكريماً له ولأمَّته من بعده.
كان عليه الصلاة والسلام يقول:

أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَالْمُقَفِّي ، وَالْحَاشِرُ ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ

[من صحيح مسلم : عن أبي موسى الأشعري]

وحينما دُعِيَ عليه الصلاة والسلام ليلعن الكفار ، أو يدعو على المشركين
قال عليه الصلاة والسلام :

إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً

[من صحيح مسلم : عن أبي هريرة]

فأنت مهمتك لست أن تكون قاضياً تحكم على الناس ، أنت داعي إلى الله ، لست قاضياَ ، كن داعياً ولا تكن قاضياً ، كن رحيماً ولا تكن قاسياً ، كن من دعاة يسروا ولا تعسِّروا ، سدِّدوا وقاربوا ، بَشِّروا ولا تنفِّروا ، كن مبشراً ولا تكن منفراً ، سدِّد وقارب ،.
قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم :

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ

[الدارمي]

نحن علاقتنا بهذه الأحاديث والآيات ، المؤمن كله خير ، أساس حياته العطاء ، أما الكافر أساس حياته الأخذ ، أي أنَّه باني حياته بالتعبير الحديث ـ باستراتيجيته ـ على الأخذ ، كلَّما أخذ يسعد ، المؤمن باني حياته على العطاء ، فلذلك إذا أراد المؤمن أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع فليكن رحيماً ، ليرحم ، ليعطي ؛ من وقته ، من ماله ، من جهده ، من خبرته ، من عضلاته ، من كل ما أعطاه الله عزَّ وجل حتى يكون رحمةً للناس بشكل مصغَّر جداً ، أي أنه نموذج مصغَّر لرحمة النبي عليه الصلاة والسلام، المؤمن أينما حَل يتبارك الناس به .
والمعنى المخالف لقوله تعالى :

(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)

[سورة الدخان : من آية 29]

المؤمن تبكي عليه السماء والأرض ، الأرض التي كان يطأها تبكي عليه ، المكان الذي كان يجلس فيه يبكي عليه ، لأن كله خير .

رابعاً:رحمة النبي بالأهل والعيال :

أما رحمته بالأهل والعيال ،
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: دققوا في هذه الأحاديث ونحن في أمس الحاجة إليها

ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم

فأحياناً تجد أب رحمته غير طبيعيَّة ، زائدة ، هذا الأب من أسعد الآباء ، فأنا أرى أن أحد أسباب سعادة الإنسان أسرته ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بالعيال،
كان إبراهيم ـ ابنه ـ مسترضعاً له في عوالي المدينة ـ أي بمكان بعيد في المدينة ـ فكان ينطلق ونحن معه . ينطلق النبي مسافة طويلة ، سيقطع قطر المدينة . فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت فيأخذ ابنه المسترضع فيقبِّله ثم يرجع
هكذا ورد ـ من شدة محبته لأهله كان ينطلق مع أصحابه من بيته ، أو من مسجده إلى طرف المدينة ، ليرى ابنه إبراهيم عند مرضعته فيقبله ويرجع ، ما الذي دفعه إلى هذا ؟ حُبه لأهله ، رحمته بهم .
قال عمرو :
لما توفي إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام : إن إبراهيم ابني ، وإنه مات في الثدي ـ أي رضيع ، أي في سِن رضاع الثدي ـ وإنه له لظئرين ـ أي مرضعتين ـ تكمِّلان رضاعته في الجنَّة ، فإنه توفي وله ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً
ومن رحمته دمع عينيه لفراق ولده إبراهيم ، فعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم

دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ـ أي في حالة الاحتضار ـ فجعلت عينا رسول الله تذرفان بالدموع ، فقال عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله تبكي؟ . فقال : يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى قال :إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون

[رواه البخاري وروى بعضه مسلم]

إذا بكى الرجل فلا مانع ، ولكن لا يتكلم كلام لا يليق بإيمانه ، أحياناً يموت الأب فيقول لك: انهدَّ الجسر. الله موجود ـ خرب بيتنا ـ ما خرب بيتكم ، الله الموجود ، الله هو الرزَّاق ـ مات المعيل ـ هو كان معال معكم كله كلام كفر ـ أما الإنسان يتألَّم … وإن عليك يا إبراهيم لمحزونون
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رُفع إليه ابن ابنته وهو في الموت ، ففاضت عينا رسول الله بالدموع ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله؟

قال :

هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرُحَماء

ومن رحمته بأهله أنه كان يعاونهم في الأمور البيتيَّة ،
سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ :

كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ

[البخاري]

فأحياناً تجد شخص في البيت دائماً في خدمة أهله ؛ يرتِّب ، ويقوم بأعمال من أعمال البيت، إذا كان مرتاح وما عنده شغل ، وزوجته مرهقة فعاونها هذا من سُنة النبي عليه الصلاة والسلام.
هناك رجال جبابرة ، أي يضرب ، ويكسِّر ، ويسب ، إذا دخل البلاء للبيت ، تجده وحش وشيء مخيف، النبي عليه الصلاة كان رحيماً ، في إنسان دخوله يبعث الفرح للبيت ـ أي أن مؤنته خفيفة ، إذا كانت زوجته نائمه يتعشَّى لوحده ، أما يقيم القيامة لماذا ناموا قبل أن يأتي ؟ يوقظهم قوموا اعملوا عشاء ، إذا كان قميصه غير مكوي تقام قيامة المرأة ، تُطرد ؟! نسيت قميص ، نسيت زر لم تقطبه، هذا جبَّار .
قال :

ما كان صلى الله عليه وسلم من جبابرة الرجال ، بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ :

مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ

عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ ـ أي يركبه على أكتافه ـ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ

هذه رحمته في البيت

خامساً:رحمة النبي بالصبيان :

أما رحمته بالصبيان
قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ

أي كثيراً ما كان ، وفي صلاة الفجر التي سَنَّ لنا أن نقرأ فيها أربعين آية ، أو ستين آية ، في صلاة الفجر إذا سمع بكاء طفلٍ ، وأمه تصلي خلف رسول الله ، كان يقرأ أقصر سورةٍ ويسلِّم ، رحمةً بهذه الأم التي يناديها ابنها ببكائه هكذا .
ومن رحمته بالصبيان أنه كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم ـ أحياناً
قَالَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ :

لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ

[أحمد]

أنت تلاحظ إذا قبَّلت طفل ولم تقبِّل أخوه ينظر إليك بإنزعاج ، جرح ، النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمرنا أن نعدل ولو في القُبَل ، والحقيقة أحياناً يكون في عندك ولدين أو ثلاثة ، أو أولاد ابنتك أو أولاد ابنك ، واحد أذكى من الثاني ، واحد أجمل من الثاني ، لا تنساق مع هواك فتعتني بالأجمل ، والأذكى ، أنت الآن تمشي مع هوى نفسك ، أما الأكمل أن تعتني بالآخر نفس العناية حتى تأخذ بيده ، ما تعقده ، أما مجتمعنا قاسي أحياناً يعتني بالذكي والجميل ، والأقل ذكاء والأقل جمال تجده مهمل ، هذه من قسوة المجتمع ، حتى في التعليم المعلم الناجح يجد الطفل الذي وضعه العام أقل من غيره ، أفقر ، أقل جمال ، أقل ذكاء يعتني فيه ، يرفع له معنوياته ، يبث فيه الحماس ، يثني على اجتهاده ، وإذا أجاب إجابة صحيحة يثني عليها ثناءً كبيراً فينعشه، كن رحمانياً لا تكن شهوانياً ، حتى في معاملة الأبناء والاثنين أولادك ، اعتني بالأقل ، بالأقل ذكاء ، بالأقل جمال اعتني فيه ، ارفع له معنوياته ، عاونه على نفسه .
ومن رحمته بالصبيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم .
عن عائشة . قالت :

قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الحسن والحسين ابني علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي ، فقال الأقرع : إن لي عشرةً ما قبَّلت أحداً منهم قط . فنظر إليه عليه الصلاة والسلام ثم قال : من لا يرحم لا يُرحم

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :

جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ

أي ماذا أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك ؟ فهناك كثير من الآباء إذا دخل إلى بيته يمضي وقت طويل في مداعبة أولاده الصغار ، لكي يتألَّف قلبهم ، حتى يحبوه .
ومن رحمته بالصبيان وحبه لهم إدخال السرور عليهم ، أنه صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بأول ما يُدرك من الفاكهة ، يعطيها لمن يكون في المجلس من الصبيان . إذا قُدِّمت له الفاكهة أول مرَّة في موسمها ينظر إلى أصغر الحاضرين سِناً ، ويعطيه لهذا الطفل الصغير .
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:

أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بباكورة الثمرة أي أولها ، وضعها على عينيه ثم على شفتيه ، وقال : اللهمَّ كما أريتنا أوله فأرنا آخره ، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان

الواحد يرحم الصغار ، يعتني فيهم ، يكفيهم ، ينيِّمهم نومة مريحة ، يطعمهم أكلة طيبة ، يأخذهم سيران . والله أحياناً إذا أخذت أولادك سيران تكون في أعلى درجات العبادة ، من لهم غيرك ؟ يأتون إلى المدرسة فيقولون: والله بابا أخذنا إلى هنا ، كل ابن يتكلَّم عن والده أين أخذه، وأنت خذه مشوار ، عطِّل وقتك ما في مانع ، ابذل جهد ما في مانع ، فالعناية بالأولاد جزء من الدين لكي ينشأ على محبة رسول الله ، أن أباه مؤمن اعتنى فيه .

سادساً:رحمة النبي بأصحابه :

ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لثقل مرض بعض أصحابه
عن ابن عمر رضي الله عنهما :

أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقَّاس ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فبكى رسول الله ، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا فقال : ألا تسمعون إن الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذِّب بهذا أو يرحم ، وأشار إلى لسانه

لا يعذب ببكاء العين ولا بحزن القلب ، مُعفى ، أما إذا تكلَّم الإنسان كلام كفر ـ واحد توفيت زوجته ، ولها أخت أكبر منها بعشر سنوات فقال : كنت خذ تلك التي ما لها زوج ، أخذت لي هذه ـ طبعاً هذا كلام فيه كفر ، فيه عدم معرفة بحكمة الله عزَّ وجل ، فالإنسان لا يعذب لا بعينه ولا بقلبه إنما يعذَّب بلسانه .
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه ،
عن عائشة رضي الله قالت:

قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت ، قالت : فرأيت دموع النبي تسيل على خد عثمان

يرحم أصحابه ، يحبهم ، يعرف قدرهم ، يعرف قيمتهم ، يعرف ميزاتهم .

سابعاً:رحمة النبي بالمساكين والضعفاء:

عن أنس رضي الله عنه قال:

إن كانت الأمة ـ أي المملوكة ـ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتنطلق به حيث شاءت ـ أي إذا في بنت صغيرة في البيت ، أحياناً الطفل يعرف أن هنا توجد سكرة ، أو بسكوت مغلق عليه ، فيمسك يد والده ويشدَّه ، هذا قبل أن يدرك، قبل أن يتكلَّم ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا طفلة صغيرة أمسكت بيده ، وسارت به سار معها ـ فتنطلق به في حاجتها أي ليقضي لها حاجتها من شراء طعامٍ أو متاعٍ أو نحو ذلك

عن ابن أب أوفى رضي الله قال:

أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان لا يأنف ـ أي لا يتكبَّر ـ أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة

وعن سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم:

كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم

ثامناً:رحمة النبي باليتيم :

فقد قال تعالى:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر)

[سورة الضحى]

والنبي عليه الصلاة والسلام شاءت حكمته تعالى أن يكون يتيماً تطييباً لقلوب اليتامى من بعده، فسيد الخلق ، وحبيب الحق كان يتيماً ، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن إلى اليتامى ، ويبرهم ، ويوصي بكفالتهم، والإحسان إليهم ، ويبيّن الفضائل المترتبة على ذلك
قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ

قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ

إذا أكرم الله عز وجل إنساناً بيتيم ورعاه ، فرعاية هذا اليتيم كافية لدخول الجنة ،
وكذلك امرأة شابة في ريعان الشباب مات زوجها ، فحبست نفسها على تربية أولادها ، وآثرت هذا العمل الطيب على حظها من الأزواج ، فهذه امرأة مدحها النبي صلى الله عليه وسلم ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا

فهذه المرأة التي حبست نفسها على أولادها ، وآثرت هذا العمل الطيب على حظها من الرجال أصبحت سفعاء الخدين ، يعني في كمودةِ حرمانٍ ، كمودةِ البعدِ عن الزوج ، آمت أي أصبحت أيماً ـ ترملت ـ يعني ربت أولادها ، ولم تتزوج ، والسؤال الآن : هذا الطفل الصغير كم هو غال على الله ؟ حيث إنك إذا رعيته تستحق الجنة ، فالله شهيد أني لا أرى في الحياة الدنيا عملاً أعظم من أن تغرس الإيمان في نفس أولادك ، من أن ترعاهم ، من أن تدخل على قلوبهم السرور ، وأن تنشئهم على القيم والمبادئ السامية فهذا العمل كبير جداً.
والإنسان يشقى بشقاء أولاده شقاء حكماً ، مهما بلغت ، مهما ارتقيت ، مهما حصلت من المال ، لي قريب مات منذ ثلاثين عاماً ، ترك مئة مليون ليرة ، فقبل أن يموت بأيام قال لامرأته : ضيعنا الذهب ـ ويقصد بالذهب أولاده ، فقد أهملهم ، فنشؤوا منحرفين ـ وتبعنا العراط أي الفحم.
عبر عن خطأه الفاحش أنه أهمل أولاده ، واهتم بتجميع الأموال ، فلما توفي ترك هذا المال بأيدٍ شقية ، منحرفة ، فضاع المال والأولاد .
أيها الإخوة ، ما للإنسان من عمل أعظم على الإطلاق من تربية أولاده ، وتنشئتهم تنشئة صالحة ، واللهِ من يقم بهذا العمل فأنا أكبره أشد إكبار .
نناقش اليوم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم ، والله شيء لا يكاد يصدق ، كافل اليتيم مع رسول الله في الجنة ، امرأة مات زوجها ، وترك لها أولاداً فحبست نفسها على تربيتهم ، وحرمت نفسها من الزواج ، فهي مع رسول الله في الجنة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ :

امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ

[أحمد]

أحياناً قد يكون هذا اليتيم في غده مصلحاً اجتماعياً ، قد يكون عالماً كبيراً ، قد يكون محسناً كبيراً ، فهذا الذي نشأه هذه التنشئة الطيبة ثوابه عند الله عظيم ،
اليتيم ليس له أب ، فكل مؤمن أب له ، وإذا شعر هذا اليتيم أن الناس يعطفون عليه ، ويكرمونه أحبهم ، سواء كانوا من أهل والده ، أو من أصدقائه ، لذلك فالمجتمع المؤمن مترابط ، متعاون ، متكاتف ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ

[البخاري ـ مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ ابن ماجة ـ أحمد]

السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ ، أي الذي يسعى فيما ينفع الأرملة والمسكين ،

تاسعاً:رحمة النبي بالحيوان :

كان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرحمة بالحيوان ، وينهى صاحبه أن يجيعه ، أو أن يدئبه ، أو أن يتعبه بإدامة الحمل عليه ، أو إثقاله ،
فعَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ :

مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً

[أحمد ـ أبو داود]

لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ ، أي ضمر من شدة الجوع ،
العناية بالحيوان جزء من دين المؤمن ، فعلى الإنسان إذا رأى حيواناً في بستان فعليه أن يعتني به إذا دعته حاجة لذلك .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ :

أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ

[مسلم ـ أبو داود ـ ابن ماجة ـ أحمد ـ الدارمي]

فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ ـ وهو موضع الأذنين من مؤخر الرأس ـ
وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن إجاعة الحيوان ، وإتعابه ، إما بكثرة العمل عليه، أو بتحميله فوق طاقته ، بعض من يعملون مع الدواب يأتون بمخرز أحياناً ، ويخزوها فيه ، فهم يسيئون إلى هذه الدابة إساءة بالغة ، مثل هؤلاء الأشخاص يحاسبون عند الله أشد الحساب .
منطلق المؤمن : أن هذه المخلوقات ربُها اللهُ سبحانه وتعالى وهو حسيبها ، وهو يقتص ممن يؤذيها ، ذكرت لكم مرة أني رأيت في طريق المطار إنساناً دهس كلباً ، ولكن أراد أن يظهر براعته في القيادة فقطع يدي الكلب ، وأبقاه حياً ، كلب في أيام الشتاء يشعر بالبرد جالس على الزفت ، والزفت لونه أسود يمتص الحرارة ، وحرارته أعلى من حرارة التراب ، والكلب الصغير جالس على يمين الطريق ، وهذا السائق بقيادة ماهرة دهس يدي الكلب فقطعهما ، وأطلق ضحكةً هستيريةً يعبر عن مهارته في قيادة السيارة ، يركب إلى جانبه شخص زارني في مكان عملي قبل سنوات ، وهو شاهد عيان ، قال لي : والله بعد أسبوع واحد في المكان نفسه تعطلت سيارته ، فجاء ليرفعها بالرافعة المخصصة لذلك ، فاضطربت ، ووقعت العجلة على رسغيه ، وطرف العجلة حاد ، فمزقت عظام رسغيه ، فلما أخذ إلى المستشفى كانت يداه قد اسودتا ، فصار لزاما مِن قطعهما فبعد أسبوع واحد كان بلا كفين ، فالله كبير ، وهو عزيز جبار منتقم .
لذلك فهذه البغي التي سقت الكلب ، وهي تعلم أنّه ليس له صاحب يشكرها ، وليس حولها أحد ترائي له فيبدو أنها سقت هذا الكلب مخلصةً في إروائه من العطش فغفر الله لها .
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا ولا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ

[البخاري ـ مسلم ـ الدارمي]

يقاس على ذلك إنسان يدوس بقدمه نملة ،
قال تعالى :

(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)

[سورة النمل]

قال تعالى :

(وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)

[سورة الفرقان]

قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ ـ يعني واقفون على دواب يتحادثون ـ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا هِيَ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ

[أحمد ـ الدارمي]

هذه الدابة المركوبة ربما كانت عند الله خير من راكبها ،
لأن الله عز وجل قال :

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)

[سورة الإسراء]

فإذا كان الراكب غافلاً والمركوب ذاكراً ، فالمركوب أصبح خيراً من الراكب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم:

إن الله يوصيكم بهذه البهائم العجم مرتين أو ثلاثاً فإذا سرتم عليها فأنزلوها منازلها

أحياناً يبيعون سمكاً طازجاً يصطاد من البحيرة ، أو من الحوض لتوه ، والقائمون على بيع السمك جهلة ، سمك يضطرب يُفتح بطنه ، وتُنزع أحشاؤه ، هذا السمك لا يجوز أن يفتح بطنه ، وهو حي ، إلى أن تموت حقاً ، وتكون قد وجبت جنوبها ، لا تعذبَ سمكةً ما تزال تشعر ، وتتألم ، فوق أنك اصطدتها ، وأخرجتها من الماء ، وتتلوى من قلة الأوكسجين تفتح بطنها ، وتنزع أحشاءها ، كائن فيه روح ، فالإنسان ليس له حق إذا اشترى سمكاً من الماء أن يسمح لهذا الذي يعمل في بيع السمك أن يفتح بطن السمك ، وينظفه قبل أن تجب جنوبها .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ :

ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوَاءً وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ يُجْعَلُ فِيهِ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ

[أحمد ـ النسائي ـ الدارمي ـ أبو داود]

قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا و لا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ

[البخاري ـ مسلم ـ الدارمي]

والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تسليط الحيوانات بعضها على بعض بالأذى ، وتهييجها بالإفساد والتحريش ،
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ

[أبو داود ـ الترمذي]

قد يجري بين الديكة أحياناً اشتباك ، وكذلك صراع بين الثيران مثلاً ، فهذه اللعبة كلها حرام ، إلا أن يكون ثيران تصارع ثيراناً من تلقاء ذواتها ، فهذا موضوع آخر ، أما أن يكون لعبًا ، رياضة هوايات ، مبنية على تعذيب الحيوان ، أو على قتله فهذا ما لا يجوز في الإسلام .
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالطيور ، وكان عليه الصلاة والسلام يحذر من أن يفجع الإنسان الطيور في أولادها ، وذلك من باب الرحمة ،
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :

كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ : مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا : نَحْنُ ، قَالَ : إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ

[أبو داود ـ أحمد]

الحمرة: طائر صغيرٌ كالعصفور ، تفرش: أي تقف ، وتضطرب بجناحيها اضطراباً وقلقاً على أولادها .
قد يضعون عقرباً ضمن فحم ، ويشعلون الفحم ، هذا تعذيب ، والتعذيب بالنار محرم أشد التحريم ، فلا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار .
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ

[أحمد]

أنت مسافر ، وأصابك جوع شديد ، وليس هناك طعام تأكله ، فلك أن تصطاد طيراً ، وتأكله ، أما أن تجعل الصيد هوايةً ، تقتل الطير من دون أن تأكله ، وتحقيقاً لهواية الصيد فهذا بإجماع الفقهاء حرام .
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا قَالَ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا ولا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا

[أحمد ـ النسائي]

الآن إذا أردت أن تذبح عصفوراً ، أو دابةً ، أو خروفاً ، أو شاةً ، فما حكم الشرع فيما تفعل ؟
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاةً وهو يحد شفرته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :

أتريد أن تميتها موتتين هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها

والذي ذبح شاةً أمام أختها أيضاً عنفه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال :

تريد أن تميتها مرتين هلا حجبتها عن أختها

وبعد أن أُحدِثت مسالخ للقطاع الخاص استشارني أخ من إخواننا الكرام ، فهو يشتري غنماً ، ويذبحها ، ويبيعها ، قلت له : اجعل غرفةً للذبح خاصة في منأى عن بقية الغنم ، لأنك إذا ذبحت الشاة أمام أختها فقد وقعت في معصية ، غرفة ولو من قماش أذبح في هذه الغرفة ، أما أن تذبح الشاة أمام أختها فكأنما ذبحتها مرتين .
والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ الحيوان وكل ذي روح غرضاً ـ أي هدفاً للرمي ـ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ :

مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنِ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا

[البخاري ـ مسلم ـ النسائي ـ أحمد ـ الدارمي]

سمعت عن أكلة يأكلونها في جنوب شرق آسيا ، يأتون بقرد يضعونه تحت كرسي خشب مفتوح فتحة دائرية ، حيث يظهر رأسه فَيُسلخ جلد رأسه ، تقطع جمجمته ، ويأكلون من دماغه ، وهو حي ، هذه أكلة رآها بعض الأصدقاء في جنوب شرق آسيا ، ورآها صديق لي بأم عينه في أمريكا ، فهناك جهل كبير ، أفلا يخشى هذا أن يُمسخ قرداً ، وهذا الذي يأكل قرداً لعله يُمسخ قرداً ، الإنسان حينما يقسو قلبه إلى هذه الدرجة حتى لو قتلت عقرباً ، لو قتلت أفعى يجب ألّا تعذبها .
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ :

ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ

[مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ ابن ماجة ـ أبو داود ـ أحمد ـ الدرامي]

حتى لو قتلت حيواناً سمح الله لك أن تقتله فلا يجوز لك أن تعذبه ، أما إذا عذبته فالله سبحانه وتعالى شديد الانتقام .

منهج رسول الله لكي تتصل نِعَمْ الآخرة بنِعَم الدنيا :

لذلك أرسل صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما ذكر الله عز وجل
قال تعالى :

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

[سورة الأنبياء]

فكل الأعمال الطيبة التي تفعلها أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي بتوجيهات النبي ، المؤمن يسير على منهج ، وعنده قيم ومبادئ ، وبُلّغ بالأوامر والنواهي ، والقضية ليست عشوائية ، فالمؤمن مخلوق مكرم عند الله ، ومنضبط ، فكل شيء يفعله وفق ما يأمر به الشرع .
لذلك فالمؤمن المستقيم يحفظه الله عز وجل ، ويحفظ أولاده ، إنسان أعطى ابنه عصفوراً ، ربطه بخيط، كلما طار يشده حتى خلع له رجله بعد يومين كُسِرتْ رِجْلُ الابن ، وانتكست مرة واثنين وثلاثاً ، دقق قبل أن تسمح لأولادك أن يلعبوا بعصفور ، هذا مخلوق ، الرجُلُ راع في بيته ، وهو مسؤول عن رعيته .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ فَقَالَ إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ ـ حلة حريرية فخمة ـ فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَتَتَّبِعُونِي ، فَقَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا ، فَقَالَ: لَهُمْ أَلَمْ أَلْقَكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي فَقَالُوا : بَلَى قَالَ فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبَ مِن هَذِهِ وَحِيَاضًا هِيَ أَرْوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبِعُونِي قَالَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ صَدَقَ وَاللَّهِ لَنَتَّبِعَنَّهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْه

[أحمد]

القصة رمزية ذات دلالة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاءنا بهذا الدين القويم وجاءنا بهذا المنهج المستقيم ، وجاءنا بهذه السنة المطهرة وهذه السنة تحقق مصالح الدنيا والآخرة ، فلو أن الإنسان طبق هذه السنة صلحت دنياه ، ورفع ذكره ، ويسرت أموره ، وسعد قلبه ، واكتفى بالدنيا ضيع عليه الآخرة ، فالنبي الكريم يقول هناك مكان أعشب من هذا ، وأكثر ماءً، وهو الآخرة .
فإذا طبق الإنسان منهج الله في الدنيا ، وقطف الثمار يانعةً فعليه أن يسعى للآخرة كي تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة ، فأحياناً يكون الإنسان في الدنيا بأحسن حال ، ولكن أمامه مطب كبير ، وهو الموت ، وبعد الموت يفقد كل شيء ، ولكن السعداء في الدنيا هم الذين تتصل عندهم نِعَمْ الآخرة بنِعَم الدنيا ، فهو في الدنيا مِن أسعد الناس ، وإذا جاء الموت من أسعد الناس ؟ فمن أجل أن تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة ينبغي أن تطبق منهج رسول الله في الدنيا وأن تطلب الآخرة من أجل أن تكون في الدارين من السعداء .

والحمد الله رب العالمين

منقول عن: السيرة – شمائل الرسول 1995 – الدرس (15-32) : رحمته بالمؤمنين – بالمنافقين – بالكفار – بالصبية – بالأولاد
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1995-01-16

السابق
خُلق النبي العظيم صلى الله عليه وسلم
التالي
حلم و غضب الرسول صلى الله عليه وسلم