أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري، محدِّث ومؤرِّخ ونسَّابة، ثقة مأمون، ويُعدُّ كتابه تاريخ خليفة بن خيَّاط من أوثق الكتب وأهمِّها؛ حيث لا يستُغنى عنه في دراسة النظام الإداري والمالي الإسلامي، كما أنَّ طبقات خليفة بن خياط من أقدم ما وصل إلينا من كتب الطبقات ومن أهمِّها على الإطلاق.
نسبه ومولده
هو الإمام، الحافظ، العلَّامة، الأخباري، أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني الليثي العصفري البصري، ويُعرف بشَبَاب، الفقيه، المحدث، الأديب، المؤرخ، النسَّابة، وُلِدَ خليفة في البصرة في حدود سنة (160هـ=777م)، وبها تلقَّى ثقافته، ومارس التدريس.
قال ابن خلكان: “والعُصْفُري -بضم العين وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء وبعدها راء- هذه النسبة إلى العصفر الذي يُصبغ به الثياب حمرًا، وشَبَاب -بفتح الشين المثلَّثة والباء الموحَّدة وبعد الألف باء ثانية- وقد اختلفوا في تلقيبه بذلك لأيِّ معنًى هو” ا.هـ.
نشأته العلمية
وإنَّه لمن الصعب -إن لم يكن من المتعذَّر- رسم صورةٍ واضحة المعالم لحياة هذا المؤرِّخ الكبير؛ وذلك أنَّ المصادر التي بين أيدينا لم تُسعفنا بما يُعين على توضيح هذه الصورة، وما جاء عنه فيها لا يعدو ذكر نسبه، وسنة وفاته، وتعداد شيوخه وتلامذته.
ويظهر أنَّ خليفة لم يرحل في الطلب، أو لم يكن واسع الرحلة على أقلِّ تقدير؛ بل اقتصر في تلقِّي العلم على بلده البصرة، حتى إنَّه -فيما يبدو- لم يدخل بغداد قط، ومِنْ ثَمَّ لم يذكره الخطيب البغدادي في تاريخه.
إقرأ أيضا:ابن خلدون – مفخرة الإسلاموخليفة بن خياط سليل أسرةٍ اشتهر أبناؤها بالعلم، وأنجبت عددًا من العلماء الأفاضل، الذين عرفوا في ميادين مختلفة؛ فالجدُّ والأب والحفيد علماءُ محدثون، وبرزوا في علوم عدَّة؛ فجده الذي يحمل اسمه كان من رجال الحديث الثقات عند البخاري وابن أبي حاتم الرازي.
تلقَّى خليفة العلم من شيوخ عصره، فأخذ عنهم علوم القرآن، والحديث، والأنساب، والأخبار، واللغة، وغير ذلك، فصنَّف في هذه العلوم، كما اهتمَّ بعلم قراءة القرآن الكريم؛ فقد أخذ خليفة العلم عن عددٍ من الشيوخ في طليعتهم يزيد بن زريع الذي كان خليفة ألصق طلابه به، ويزيد هذا من ثقات أهل البصرة مع ميولٍ عثمانيةٍ كما وصفه ابن سعد في طبقاته، ومَنْ يستعرض تاريخ خليفة يلحظ أنَّ معظم الذين نقل خليفة عنهم كانوا من رجال البصرة، ممَّا يُؤكِّد -كما تقدَّم- أنَّه لم يرحل؛ بل قضى حياته في البصرة.
تلامذته
وتتلمذ على يده الكثير ممَّن رووا عنه، وأصبح بعضهم من كبار الشيوخ المحدِّثين منهم : الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وأبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والدارمي في سننه، وآخرون. وأمَّا الروايات التاريخيَّة فقد ورد فيها أسماء عددٍ من الأعلام المشهورين الذين اعتمد خليفة عليهم في رواياته ومعلوماته، بلغ عددهم أكثر من 103 رواة.
منزلة خليفة وذكر من ترجم له
إقرأ أيضا:ابن النجار البغداديكان خليفة بن خياط ثقةً لدى معظم أئمَّة الحديث، غير أنَّ ابن أبي حاتم وعلي بن المديني غمزاه بعض الغمز؛ فقد جاء عند الأول في كتاب الجرح والتعديل: “وسألت أبي عنه فقال: لا أُحدِّث عنه هو غير قوي, كتبت من مسنده أحاديث ثلاثة عن أبي الوليد, فأتيت أبا الوليد وسألته عنها فأنكرها، وقال: ما هذه من حديثي. فقلت: كتبتها من كتاب العصفري، فعرفه، وسكن غضبه. قال أبو محمد: انتهى أبو زرعة إلى أحاديثَ كان أخرجها في فوائده عن شباب العصفري، فلم يقرأها علينا، فضربنا عليها وتركنا الرواية عنه”.
وابن أبي حاتم وأبوه من المتشدِّدين في الجرح, وليس فيما حكياه ما يدلُّ دلالةً قاطعةً على ضعف خليفة؛ ذلك أن أبا الوليد الطيالسي أنكر الأحاديث في البداية -وقد يكون سبب ذلك أنَّه وجد في رجال الأحاديث من يُنكر أمره- ثم سكت وسكن غضبه عندما علم أنَّ الرواية عند خليفة، وهذا يعني أنَّ خليفة كان صادقًا في روايته، أمَّا ابن المديني فقد رُوي عنه أنَّه قال: “لو لم يحدث شباب كان خيرًا له”. وهذه الرواية جاءت في كامل ابن عدي، قال: “حدثنا محمد بن جعفر بن يزيد الطبري ثنا محمد بن يونس بن موسى: سمعت علي بن المديني يقول: لو لم يحدث شباب كان خيرًا له. وكان الفضل بن الحباب يذكر أنَّه كان عند أبي الوليد الطيالسي، فجاءه شباب العصفري برسالة عليِّ بن المديني أن لا يحدث يحيى بن معين, فغضب أبو الوليد وقال: لم لا أحدثه؟ قال ابن عدي: ولا أدري هذه الحكاية عن علي بن المديني “لو لم يحدث شباب كان خيرًا له”. قال ابن عدي: إنَّما يروي عن علي بن المديني الكديمي، والكديمي لا شيء، وشباب من متيقِّظي رواة الحديث، وله حديثٌ كثير، وتاريخٌ حسن، وكتابٌ في طبقات الرجال.
إقرأ أيضا:ابن دقماق – مؤرخ الديار المصريةوكيف يُؤمن بهذه الحكاية عن عليٍّ فيه، وهو من أصحاب علي؟ أَلَا ترى أنَّه حمله الرسالة إلى أبي الوليد في ابن معين, سيَّما إذا كان الراوي عن علي محمد بن يونس وهو الكديمي, فدلَّ هذا على أنَّ الحكاية عن عليٍّ باطلة، ولخليفة من الحديث الكثير ما يستغني أن أذكر شيئًا من حديثه، وهو مستقيم الحديث صدوق.
وخليفةٌ ثقةٌ عند البخاري وترجمه في تاريخه الكبير، كما ترجم له الذهبي ووثَّقه في معظم كتبه: في تذكرة الحفاظ, والميزان, وسير أعلام النبلاء, وهي أوسع ترجمةٍ له، قال: “خليفة بن خياط بن خليفة بن خياط الإمام الحافظ العلامة الأخباري أبو عمرو العصفري البصري, ويُلقَّب بشباب، صاحب التاريخ وكتاب الطبقات وغير ذلك، سمع أباه، ويزيد بن زريع، وزياد بن عبد الله البكائي، وسفيان بن عيينة، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، ومحمد بن جعفر غندر، وإسماعيل بن علية، ومحمد بن أبي عدي، ومعمر بن سليمان، ومحمد بن سواء, وخالد بن الحارث، ويحيى القطان، وابن المهدي، وأمية بن خالد، وحاتم بن مسلم، وهشامًا الكلبي، وعلي بن محمد المدائني, وخلقًا كثيرًا، ذكر شيخنا في تهذيب الكمال أنَّه روى عن حماد بن سلمة, فهذا وهمٌ بيِّن؛ فإنَّ الرجل لم يلحق -أيضًا- السماع من حماد بن زيد ولا أراه رآه.
حدَّث عنه البخاري بسبعة أحاديث أو أزيد في صحيحه، وبقي بن مخلد، وحرب الكرماني، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وعمر بن أحمد الأهوازي، وموسى بن زكريا التستري، وعبدان الجواليقي، وزكريا الساجي، وخلق. وكان صدوقًا نسَّابةً، عالمـًا بالسير والأيام والرجال, وثَّقه بعضهم. وقال ابن عدي: هو صدوقٌ من متيقِّظي الرواة. قلت (الذهبي): ليَّنه بعضهم بلا حجَّة”.
مناقبه وثناء العلماء عليه
كان خليفة بن خيَّاط متقنًا وعالمـًا بأيَّام الناس، عانى الكثير من العنت في عصر الخليفة المأمون العباسي بسبب عدائه لفرقة المعتزلة، وكذلك كابد الكثير بسبب الحسد من سعة علمه وثقته، أشاد الكثير من العلماء بعلمه، فقال ابن عدي: مستقيم الحديث، صدوق، من متيقظي رواته، له تاريخٌ حسن، وكتاب في طبقات الرجال”. وقال ابن حبان: “كان متقنًا عالمـًا بأيام الناس”. في حين قال عنه ابن خلكان في ترجمته: “كان حافظًا، عارفًا بالتواريخ، وأيام الناس، غزير الفضل”.
ولخليفة بن خياط ترجمةٌ جيِّدةٌ في تهذيب التهذيب لابن حجر, جاء فيها: “خليفة بن خياط بن خليفة بن خياط العصفري التميمي، أبو عمرو البصري الملقب بشباب. روى عن إسماعيل بن أمية، وبشر بن المفضل، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن زريع، وعبد الرحمن بن مهدي، وكهمس بن المنهال، ومعاذ بن معاذ العنبري، ومعتمر بن سليمان، وابن عيينة، وخلق كثير. وعنه البخاري، وإبراهيم بن عبد الله الجنيد الختلي، وأبو يعلى الموصلي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأحمد بن علي الأبار، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وحرب الكرماني، وعبد الله بن ناجية، والحسن بن سفيان، وعبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وتمتام, ويعقوب بن شيبة، والصنعاني, وجماعة… وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان متقنًا عالمـًا بأيَّام الناس وأنسابهم. قال محمد بن عبد الله الحضرمي: مات سنة “240”هـ. قلت (ابن حجر): لم يُحدِّث عنه البخاري إلَّا مقرونًا, وإذا حدَّث عنه لمفرده علَّق أحاديثه. وقال مسلمة الأندلسي: لا بأس به”.
وذكر ابن تغرِّي بردي خليفة في وفيات سنة 240هـ، وأثنى عليه ابن العماد في الشذرات. وكذلك أبو بكر بن العربي حين اعتمده ونقل عنه في كتابه العواصم من القواصم.
مصنفات خليفة بن خياط
صنَّف خليفة فيما ذكر النديم في الفهرست أربعة مؤلَّفات،كتاب “التاريخ”، وكتاب “طبقات القرَّاء” المعروف بكتاب “الطبقات”، وكتاب “تاريخ الزَّمنى والمرضى والعرجان والعميان”، وكتاب “أجزاء القرآن وأعشاره وأسباعه وآياته”، وقد سلم من هذه المؤلفات كتابي “التاريخ” برواية بقي بن مخلد (ت 276هـ) و”الطبقات” في مخطوطات فريدة، وقد طبعا مؤخرًا في دمشق وبغداد.
تاريخ خليفة بن خياط
وتاريخ خليفة بن خياط أقدم ما وصل من كتب التاريخ التي تنهج منهج الحوليَّات، وهو يتناول تأريخ فترةٍ من تاريخ الإسلام حتى سنة 232هـ، وقد تأثَّر خليفة المحدِّث والفقيه لمدى بعيدٍ بأسلوب مدرسة الحديث ومنهجها في السرد والبحث التاريخي.
كشف خليفة في كتابته “التاريخ” عن اهتمامات تاريخيَّة لا نجدها لدى غيره من المؤرِّخين؛ فهو على سبيل المثال يُبدي اهتمامًا خاصًّا بذكر أسماء الشهداء في الغزوات والمواقع الهامَّة التي تحدَّث عنها في كتابه، ويُقدِّم قوائم مهمَّة بأسماء العمَّال والولاة والقضاة في عهود الخلفاء الذين طالتهم المدَّة الزمنية لكتابه وهي من السنة الأولى للهجرة حتى (232هـ=846م)، وكذلك العاملين معهم من كبار الموظفين في الشرطة، وبيت المال، والخزائن، وغير ذلك من الوظائف الإدارية الأخرى.
وبهذا، فهو يُعدُّ من الناحية الإدارية مصدرًا ثرًّا وهامًّا لا يستغنى عنه في دراسة النظام الإداري والمالي الإسلامي، وهو جانب هامٌ وكبيرٌ برز لديه خاصَّةً عبر صفحات كتابه هذا، بالإضافة إلى كلِّ ما سبق، فهو يُقدِّم معلومات في بعض الأحيان عن الحوادث التي قد لا تظهر عند غيره من المؤرِّخين المعاصرين، أو حتى فيما بعد ذلك، كإيراده أخبارًا عن إفريقيَّة وغيرها.
أمَّا عن مصادره في تدوين السيرة النبوية، فمعظم معلومات خليفة بن خياط أخذها عن محمد بن إسحاق (ت 151هـ) ونلاحظ وجود اسم وهب بن جرير الذي نقل عنه محمد بن سعد في طبقاته الكبرى، وكذا أبي معشر السندي، وقد بدأ حوليَّات كتابه بالسنة الأولى من الهجرة النبويَّة وانتهى إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذكر عمَّاله وكتَّابه، ثم شرع في ذكر الخلفاء الراشدين وبقيَّة دول الإسلام إلى أحداث 232هـ.
أمَّا في الأنساب، فقد أخذ عن هشام بن محمد الكلبي، أبي اليقظان سحيم النسابة، ونجد اسم أبي عبيدة معمر بن المثنى الذي أخذ عنه أخبار الخوارج، وقد أخذ عن يحيى بن محمد الكعبي، ويزيد بن زريع، وعبد الله بن المغيرة، والوليد بن هشام، وعبد الله بن قعنب، وخلقٍ كثيرٍ يبلغون أكثر من 103 من الإخباريِّين والرواة والمحدِّثين.
كتاب الطبقات لخليفة بن خياط
ويتناول خليفة في كتاب “الطبقات” علم الرجال، ويظهر في كتابه هذا معرفة وخبرة وعلمًا واسعًا بالأنساب، ولكنَّه يُضيف إليها الأخبار المتعلِّقة بالرجال المترجم لهم، ويُعدُّ ابن خيَاط مع ابن سعد صاحب “الطبقات الكبرى”، أقدم من أخذ بالترتيب الأنسابي من المصنِّفين في علم الرجال، وقد اعتمد التسلسل القبلي بالنسبة إلى الآخرين من بعدهم.
وطبقات خليفة بن خياط من أقدم ما وصل إلينا من كتب الطبقات؛ فمؤلِّفها معاصر لابن سعد الذي وصلتنا طبقاته ناقصة فيها سقطٌ كثير، يحوي هذا الكتاب تراجم ما يُقارب 3375 من الصحابة والتابعين وتابعيهم رجالًا ونساء, وقد تكرَّرت تراجم بعضهم ولا سيَّما الصحابة، وقد بدأ المؤلِّف كتابه بالتحدُّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يُترجم للصحابة، حتى إذا تحدَّث عن الأمصار ترجم لصحابة كلِّ مَصْرٍ ثم لتابعيه، وأمَّا الصحابيات فأفرد لهنَّ بابًا خاصًّا في آخر الكتاب.
ومنهج خليفة في هذا الكتاب يُخالف منهج ابن سعد في طبقاته أحيانًا ويُقاربه أحيانًا؛ فابن سعد بدأ كتابه بأن خصَّص المجلَّدين الأول والثاني في السيرة والشمائل, وجعل الثالث لتراجم أهل بدر ونقباء الأنصار, والرابع للحديث عن الطبقة الثانية من الصحابة، ثم الصحابة الذين أسلموا قبل فتح مكة, والخامس لتابعي المدينة ثم للصحابة والتابعين في مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين, والسادس للصحابة والتابعين من أهل الكوفة, والسابع للصحابة والتابعين في البصرة والشام ومصر وخراسان وبقية الأمصار الإسلامية, والثامن للنساء الصحابيات.
أمَّا خليفة بن خياط فقد بدأ كتابه بترجمة الرسول صلى الله عليه وسلم فعمُّه العباس بن عبد المطلب، فبقيَّة الهاشميِّين, ثم أخذ يترجم للأمويين, ثم تناول سائر بطون قريش بطنًا بطنًا, ثم ألمَّ بسائر القبائل المضرية فالعدنانية, وبعد ذلك بدأ بالصحابة من القبائل اليمانية، وهذا يعني أنَّه رتَّب الصحابة وقسَّمهم لا وفق سابقتهم ومنازلهم في الإسلام كما فعل ابن سعد، وإنَّما وفق أنسابهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, متَّبعًا الأسلوب الذي طبَّقه عمر بن الخطاب في الديوان، وكان يُشير إلى منزلة كلٍّ من الصحابة في تراجمهم.
وبعد أن أنهى تراجم الصحابة جميعًا عادًّا إيَّاهم من أهل المدينة؛ لسكنى معظمهم فيها أو دخولهم إيَّاها، شرع بعد ذلك بالحديث عن الأمصار فذكر أنَّ معظم الصحابة تفرَّقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك تحدَّث عن الصحابة في الأمصار على المنهج السالف, ثم تحدَّث عن التابعين وفق أنسابهم أيضًا.
وأمَّا عن التابعين؛ فقد استمرَّ خليفة في منهجه الأول: التقسيم حسب القبائل والنسب لا حسب الرواية. ولم ينس خليفة حين يترجم للتابعي أن يذكر عمن روى من الصحابة. وبين ابن سعد وخليفة اختلاف في تعداد الطبقات، فطبقات أهل البصرة مثلًا عند ابن سعد ثماني طبقات، وعند خليفة اثنتا عشرة طبقة، وأهل الكوفة عند ابن سعد تسع طبقات، وعند خليفة إحدى عشرة طبقة, وأهل الشام عند ابن سعد ثماني طبقات، وعند خليفة ست.
يُفيدنا نهج خليفة في تقسيم الطبقات حسب القبائل في معرفة قبائل كلِّ مَصْرٍ من الأمصار، وبكلمةٍ أخرى نستطيع أن نتعرَّف إلى حركة انتشار القبائل العربية وتوزيعها جملةً وتفصيلًا؛ ذلك أنَّ خليفة يُترجم لرجاله، ليس فقط حسب قبائلهم الكبيرة؛ وإنَّما حسب أصغر الأفخاذ والفصائل، ومن عادته أن يذكر نسب المترجم كاملًا حتى أعلى أجداده، وبهذا يُصبح الكتاب -بالإضافة إلى كونه كتاب طبقات- كتاب أنساب، وخليفة كما وصفه المؤرِّخون محدِّث, مؤرِّخ, نسَّابة.
وهذا المنهج يفيد -أيضًا- في دراسة التاريخ، وخاصَّةً تاريخ بني أمية؛ إذ كان للعصبيَّة القبليَّة فيه شأنٌ كبير، وعندما يعرف المؤرِّخ قبائل كلَّ إقليمٍ في الدولة يستطيع التوصل إلى حلِّ كثيرٍ من المعضلات، ويقف على التيارات السياسية وأسرار الحوادث, وفي هذا ما فيه من جليل الفائدة، ويظهر أنَّ خليفة كان يحرص على ألَّا يفوته ذكر أيِّ قبيلةٍ من القبائل النازلة في الأمصار، حتى التي لم يُعرف فيها محدِّثون، فكان إذا ما ذكر واحدةً من هذه القبائل قال: “ليس فيها أحد”. يعني من حملة الآثار.
ومن عادة خليفة -حين يترجم للصحابي- أن يذكر الأحاديث التي رواها هذا الصحابي, ولكن لا يُثبت نصَّ الحديث كاملًا؛ وإنَّما يُشير إليه أو يذكر مطلعه وموضوعه، والغالب على تراجم خليفة لرجاله أنَّها مقتضبة؛ فهو يذكر اسم المترجم ونسبه ونسب أمِّه، وسنة وفاته ومكانها، وأحاديثه دون الإلمام بشيءٍ عن حياته، وتكاد تراجمه للتابعين تكون مجرَّد تعدادٍ لهم في طبقاتهم، دونما جرحٍ وتعديلٍ كما يفعل غيره، وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ اهتمام خليفة بذكر أمَّهات رجاله وأنسابهنَّ له عظيم الفائدة؛ فهو يُمكِّننا من التعرُّف على الصلات بين القبائل؛ لأنَّ التزاوج بين قبيلتين يعني في معظم الأحيان وجود التعاون والتحالف بينهما.
وتأتي المدينة المنورة في الطليعة من حيث وفرة علمائها المترجم لهم، وكلَّما قلَّ عدد العلماء في مدينة، تدنَّت منزلتها بالترتيب، وتأتي الكوفة بعد المدينة المنوَّرة في الترتيب من حيث العد، ثم البصرة، وتليهم بعد ذلك سائر المدن الأخرى في الترتيب وفقًا لأعداد علماء كلٍّ منها.
ولمـَّا كان خليفة بن خياط قد تميَّز بالثقة والصدق في حديثه وهو الأهم، فقد انسحبت هذه الثقة -أيضًا- على مؤلَّفاته في كتب التراجم المهمَّة وكتاباته التاريخيَّة، فلأنَّه عاصر الأحداث والشخصيات التي كتبت عنها جاءت مؤلَّفاته في غاية الأهميَّة، وتُعدُّ طبقاته من الكتب التاريخية الرائدة التي لم تسبقها طبقات عدا طبقات الواقدي المفقودة، كما أنَّ كتابته قد اتَّسمت بسعة الأُفق التاريخي والجغرافي لطبقات الرجال؛ وذلك لتتبُّعه طبقات الصحابة والفقهاء والمحدِّثين في الأمصار الإسلامية المختلفة، كما تمتاز معلوماته عن تراجم الرجال والنساء بالاختصار والقصر، لكنَّها مفيدةٌ جدًّا، كما تُفيدنا معلوماته في تشخيص الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للقبائل العربية وخططها، وكذلك معرفة أسماء الموالي الذين دخلوا في الولاء ضمن هذه التوزيعات القبلية.
لقد كان للثقة التي حازها ابن خياط دورُها في أن يُصبح مصدرًا هامًّا وموثوقًا به لدى الكثير من العلماء، أمثال: الإمام البخاري، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والطبري، وابن سعد. كما كان عمدةً ومرجعًا لكثيرين قبلهم، من أمثال: يعقوب بن شيبة، والتستري، وبقي بن مخلد، وابن عبد البر، والأصفهاني، وابن عساكر، وغيرهم الكثير.
وفاته
تُوفِّي خليفة بن خياط رحمه الله على الأرجح سنة (240هـ=854م) بمدينة البصرة، على أنَّه قد اختُلف في تاريخ وفاته، قال بن خلكان: “وتُوفِّي في شهر رمضان سنة 230هـ. وقال الحافظ ابن عساكر في معجم مشايخ الأئمة: إنَّه توفي سنة أربعين (240هـ), وقيل: ست وأربعين ومائتين (246هـ), رحمه الله تعالى”. وقال الذهبي: “قال مطين وغيره: مات سنة 240هـ. قلت: كان من أبناء الثمانين، وقد أخطأ من قال: مات سنة ست وأربعين (246هـ)”.
_________________
المصادر والمراجع:
– ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، د.ت.
– الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة ، 1405هـ=1985م.
– ابن حجر: تهذيب التهذيب، الناشر: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهندـ، الطبعة: الأولى، 1326هـ.
– سهيل زكار: مقدمة تحقيق كتاب الطبقات لخيفة بن خياط، رواية: أبي عمران موسى بن زكريا بن يحيى التستري (ت: القرن 3هـ)، محمد بن أحمد بن محمد الأزدي (ت: القرن 3هـ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1414هـ=1993م.
– فاروق بن عمر فوزي: خليفة بن خيّاط مؤرخًا، هيئة كتابة التاريخ، نوابغ الفكر العربي، بغداد،
1988م.
– عبد الله حسين: خليفة بن خياط، الموسوعة العربية العالمية، المجلد الثامن، ص895.