اختص الله تبارك وتعالى الأمة المحمدية في الآخرة بخصائص كثيرة ، لم تُعْطهَا غيرها من الأمم ، وفي ذلك تشريف وتكريم لنبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد الأولين والآخرين ، الذي أمضى عمره ، وضحى بكل ما لديه في سبيل هدايتها ، والأخذ بيدها إلى ما فيه عزها ومجدها في الدنيا والآخرة ، حتى أصبحت بفضل الله خير أمة أخرجت للناس ، قال الله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }(آل عمران: من الآية110) .
وأمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية ، فهي سابقة لها في الآخرة منزلة وفضلا ، كما أنها شاهدة للأنبياء على أممهم ، وأول من يُحْشر ويحاسب ، وأول من يجتاز الصراط ويدخل الجنة ، إلى غير ذلك من الخصائص العظيمة التي أكرمها الله بها ، والتي منها :
الغُر المحجلون :
تأتي الأمة المحمدية يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، وبهذه الصفة يعرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من غيرهم ، حين ينتظرهم على حوضه .
قال الحافظ ابن حجر : ” ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية “. والأحاديث في ذلك كثيرة ، منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إِن حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ من عدن ، لهو أَشد بياضا من الثَّلْجِ وأَحلَى من الْعسلِ بِاللبنِ ، ولآنيته أَكثَر من عدد النُّجُومِ ، وَإِنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ عنه ، كما يصد الرجل إِبِلَ الناسِ عَنْ حَوْضِهِ ، قَالوا يا رسول الله : أَتَعرفنا يومئذ ؟ ، قَال : نعم ، لَكم سِيمَا (علامة) ليست لأَحد من الأمم ، تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ من أثر الوضوء ) رواه مسلم .
والغر : جمع أغر وهو أبيض الوجه ، والمحجل: أبيض مواضع الوضوء من اليدين .
وعن نُعَيْم بن عبد الله المُجْمِر ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) رواه البخاري .
أول من يجتاز الصراط ويدخل الجنة :
الصراط جسم ممدود على متن جهنم ، أحَدُّ من السيف وأدَقُّ من الشعر ، فمن استقام في هذه الدنيا على صراط الله ، نجا على صراط الآخرة ، ومن انحرف عن الاستقامة في الدنيا ، وأثقل ظهره بالذنوب والمعاصي ، تعثَّر على الصراط وترَّدى ، ومما أكرم الله به هذه الأمة ونبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جعلهم أول من يجتاز ويعبر الصراط .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( أن الناس قالوا : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ ، قالوا : لا يا رسول الله ! ، قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ ، قالوا : لا يا رسول الله ! ، قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاءنا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ، ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها ) رواه البخاري .
وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أيضا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ) رواه البخاري .
شهداء على الأمم :
الأمة المحمدية خير الأمم وأفضلها ، خصها الله بأفضل الشرائع ، فهي وسط بين الأديان ، فلم تغل كغلو النصارى ، ولم تقصر كتقصير اليهود ، ومن ثم جعلها الله شاهدة على الأمم يوم القيامة ، فما مِن نبي ولا رسول تنكر أمته أنه قد بلَّغ ، إلا وتشهد له الأمة المحمدية بالبلاغ ، فيقبل الله شهادتها وقولها ، لما لها من الفضل والمنزلة ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }(البقرة: من الآية143) .
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يُدعى نوح يوم القيامة ، فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم ، فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيشهدون أنه قد بلغ : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } ، فذلك قوله جل ذكره :{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }(البقرة: من الآية143) ) رواه البخاري . والوسط العدل .
إقرأ أيضا:وما كان الله لِيُعَذِّبَهُمْ وأنتَ فيهموهذه الشهادة من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تقتصر على قوم نوح ـ عليه السلام ـ فقط ، بل هي شاملة للأمم كلها ،وذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يجيء النبي ومعه الرجلان ، ويجيء النبي ومعه الثلاثة ، وأكثر من ذلك وأقل ، فيقال له : هل بلغت قومك ؟ ، فيقول : نعم ، فيُدعى قومه ، فيقال : هل بلغكم ؟ ، فيقولون : لا ، فيقال : من شهد لك ؟ ، فيقول: محمد وأمته. فتُدعى أمة محمد ، فيقال : هل بلغ هذا ؟ ، فيقولون : نعم ، فيقول : وما علمكم بذلك ؟ ، فيقولون : أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا ، فصدقناه ، قال : فذلكم قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ً } ) رواه ابن ماجه .
قال العز بن عبد السلام في معرض حديثه عن خصائص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” ومنها أن الله تعالى نزَّل أمته منزل العدول من الحكام ، فإن الله تعالى إذا حكم بين العباد ، فجحدت الأمم بتبليغ الرسالة ، أحضر أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيشهدون على الناس بأن رسلهم أبلغتهم ، وهذه الخصيصة لم تثبت لأحد من الأنبياء ” .
عمل قليل وأجر كثير :
أنعم الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة بنعم كثيرة ، وخصها بخصائص عظيمة ، من ذلك أنها أقل عملا ممن سبقها من الأمم ، لكنها أكثر أجرا وثوابا ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
ومما يبرهن على هذه الخصوصية من كلام المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ، فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ، ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا لكم الأجر مرتين ، فغضبت اليهود والنصارى ، فقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء ، قال الله : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ ، قالوا : لا ، قال : فإنه فضلي أعطيه من شئت ) رواه البخاري.
قال ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث : ” والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم ، وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته ، بل بأمور معتبرة عند الله تعالى ، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير ، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها ، وهؤلاء أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ، ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه ، فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته ، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الحديد:29:28 ) .”
أكثر أهل الجنة :
مما اختص به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته في الآخرة : أنها أكثر أهل الجنة ، وهذا تكريم عظيم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته ، ومما يؤيد هذه الخصوصية :
عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أما ترضون أَن تَكونوا ربع أهلِ الْجنة ؟ ، قَال : فَكَبَّرْنَا ، ثم قَال : أَما تَرضون أَن تَكونوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، قَالَ: فَكَبَّرْنَا ، ثم قَال : إني لأرجو أن تَكونوا شَطْرَ أَهْلِ الْجنة ، وسأخبِركم عن ذلك ، ما المسلمون في الكفار إِلا كشعرةٍ بَيْضَاءَ في ثَوْرٍ أَسود أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ ) رواه مسلم .
وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم ) رواه الترمذي.
هذه جملة من الخصائص التي اختص الله بها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمته في الآخرة ، وهي ولا شك تبين مكانة هذا الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الرسل ، وتبين كذلك مكانة أمته بين الأمم ، ومن ثم فعلينا أن نستشعر ونعتز بهذه الخيرية ، وأن نتحقق بقول الله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }(آل عمران:من الآية110) .