وجود الله

خالق بلا حاجة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

[سورة الذاريات]

العِلَّة الغائِيَّة لا تليق بالله:

هل اللام في ( لِيَعْبُدُونِ ) هي لام التَّعليل؟ ولام التَّعليل مقبولة في حَقِّ الإنسان، ولكنَّها لا تَصِحُّ في حقِّ الله جلَّ جلاله، لماذا؟
بعضهم يقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الخَلْق لِهَدَف أن يعْبدوه، الإنسان حينما يرْسُم أمامه هدفًا ويسْعى إليه، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّهُ ضعيف، وتوصَّل إلى هذا الهدف بِوَسيلة، لماذا تدْرس؟ كي تتعَلَّم، ولماذا تَحْفِرُ البئر؟ كي تستخرج الماء، ولماذا تزْرع الحبَّ؟ كي تُنْبِتَ الغذاء، فالإنسان حينما يكون له هدف، وهو قاصِر عن أن يَصِل إليه، فيستعين بِأداة، بِمُجَرَّد أن يكون لك هَدَف بعيدٌ عنك، وبعيد أن تصل إليه رأساً، فأنتَ مُحْتاجٌ لِوَسيلة، فلو أنَّني أردتُ الذهاب إلى مدينة بعيدة، لَلَزِمَني لذلك سيارة فهذه المدينة بعيدة عنِّي، ولا أستطيع أن أصل إليها إلا أنْ أرْكَبَ السيارة فلامُ التعليل، والأهداف والوسائل، كلها تَصِحُّ في حقِّ الإنسان ولكِنَّها لا تَصِحُّ في حقّ الله تعالى، فلامُ التعليل في هذه الآية خَرَجَت عن معناها، فليس معناها أنَّ الله سبحانه وتعالى له هَدَف، ووصَلَ إليه بِوَسيلة، لا، بل هو خَلَقَ الخَلْق كلهم، وعليهم أن يعبدوه، لذلك خالق بلا حاجة، والعِلَّة الغائِيَّة لا تليق بالله تعالى، ويجب أن نَنْفي عن الله تعالى العِلَّة الغائِيَّة، وهي أن نقول: إنَّ هناك غاية، والله تعالى وَصَل إليها بِوَسيلة، هذا شأْنُ البشَر، وشأْن الضِّعاف، أما الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيَكُون فلا يحْتاج إلى وسائل، ولا إلى أهداف، فلا الأهداف تليق به، ولا الوسائل تليق به،
فهل هناك لامٌ أخرى خَرَجَت عن مَدْلولها في القرآن؟ نعم، هي لام المآل،
قال تعالى:

إقرأ أيضا:الله ليس كمثله شيء

(فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)

[سورة القصص]

لا يُعْقَل لِمَن كان له عَقْل أن يلْتَقِطَ غُلاماً لِيَكون له عَدُوًّا، لكنَّ هذا الغُلام آل أمرُه لِيَكون عَدُوًّا، فهذه لَيْسَت لامَ التَّعْليل، ولكنها لامُ المآل،
قال تعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

[سورة الذاريات]

أفعال الله مُعَلَّلَةٌ بِمَصالِح خَلْقِه:

إلا أنَّ بعضهم يفْهَم جَهْلاً أو خطأً أنَّنا إذا نَفَيْنا عن الله تعالى العِلَّة الغائِيَّة معنى ذلك أنَّ أفعال الله تعالى لا غايةَ منها! لكن الصواب أنّ أفعال الله مُعَلَّلَةٌ بِمَصالِح خَلْقِه،
قال تعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)

[سورة الذاريات]

أنا خلقتهم، فإذا عبدوني سَعِدوا، وهذه اللام ليْسَت لله عز وجل، ولَيْسَت تَعْليلاً لِخَلْق الله، بل هي عِلَّةُ سعادتهم، إن عَبَدوه سَعِدوا،

كليات الدين:

قال تعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

إقرأ أيضا:الإيمان بالله عن طريق الفطرة

[سورة الذاريات]

كلُّكم يعْلم أنَّ الدِّين فيه ثلاث كُلِّيات، جانب فِكْري، وجانب سُلوكي، وجانب جمالي،
الجانب السُّلوكي لا يكون إلا بالجانب الفِكْري، والجانب الجمالي لا يكون إلا بالجانب السُّلوكي،

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

العبادة لا تكون إلا بعد مَعْرِفَة، وهذه العبادة من لوازمِها السَّعادة، فأنت مَخْلوق كي تَعْلم وتعْمَل، وكي تَفْعَل، فالسَّعادة هي الغاية، والعِبادة هي الثَّمَن، والعِلْم هو السَّبَب،
قال تعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)

[سورة الذاريات]

الحديث القُدْسي الذي ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ

إقرأ أيضا:الإيمان بالله عن طريق الدليل

[رواه مسلم]

الله هو الغني الحميد:

فالله سبحانه وتعالى خالقٌ بلا حاجة، لكنّ الناس فقَرَاء إلى الله عز وجل،
قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

[سورة فاطر]

مَن يُفَكِّر في كلمة الغَنِيّ الحميد؟ الإنسان أحْياناً تَظْهَرُ موَدَّته ولُطْفُه وأدَبُه ونُعومَتُه إذا كان مُحْتاجاً لإنسان، فإذا اسْتَغْنى عنه تَظْهر فظاظته وكِبْرُه واسْتِعْلاؤُه، فالذي ليس له أصْل إيماني، هذا لُطْفُ الضَّعْف، وأحْياناً الغِنى من لوازِمِه الفظاظة، والغِلْظة، والاسْتِعْلاء، والعُنْجُهِيَّة، وهذا شأنُ البَشَر، لكنّ الله سبحانه وتعالى حينما يَصِفُ ذاته بأسْمائِه، أو صِفاته الفُضْلى يأتي بِها في الأَعَمِّ الأغلب مَثْنى مثْنى، وهناك علاقة رائِعة بين الاسْمَيْن،
فالله تعالى قال:

(وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)

[سورة لقمان]

هو غَنِيٌّ عنكم، ومع أنَّهُ غَنِيٌّ عنكم، لا يُعامِلُكم إلا مُعامَلَةً تَحْمَدونه عليها، هذه الآية تُشْبِهُ قوله تعالى :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[سورة التغابن]

وقوله تعالى:

(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)

[سورة الرحمن]

قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

[سورة فاطر]

وقال تعالى:

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

[سورة الأنعام]

الحديث القُدْسي الذي ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)

[رواه مسلم]

والحمد الله رب العالمين

منقول عن: العقيدة – العقيدة الطحاوية – الدرس (08-20) :الله خالق بلا حاجة .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1995-04-08

السابق
من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم شجاعته
التالي
الله خلق الخلق بِعلْمه