بسم الله الرحمن الرحيم
من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم حلمه وغضبه.
قال تعالى :
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
[سورة المائدة]
قال تعالى :
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)
[سورة آل عمران : من آية 159]
كان عليه الصلاة والسلام عظيم الحلم ، فكاد الحليم أن يكون نبياً ، فالإنسان الحليم ، إخواننا ، مالك زمام نفسه، يتخذ قراره بهدوء ، ويتصرف بهدوء ، وغالباً ما يصيب في قراره ، أما الإنسان إذا غضب اختل توازنه ، واضطربت رؤيته ، واصبح كالوحش ، لهذا هناك أحاديث كثيرة جداً عن الحلم
يقول عليه الصلاة والسلام :
لا تغضب كاد الحليم أن يكون نبياً
[من الجامع الصغير : عن أنس]
والحلم سيد الأخلاق
كان عظيم الحلم ، لا يقابل السيِّئة بالسيئة ، بل يعفو ويغفر ، وما انتقم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمةٌ لله فينتقم لله تعالى،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :
مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا
حلمه حتى على أعدائه:
وقالوا : لقد اتسع حلمه لجميع خلق الله تعالى ، حتى لأعدائه الذين آذوه ،
في غزوة أحد ، كسرت رباعيَّته ، وجرحت شفته السُفلى ، وشُجَّ في جبهته ، حتى سال منه الدم ، ولقد شق ذلك على أصحابه
فقالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
قَالَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً
[من صحيح البخاري : عن أبي هريرة]
كسرت رباعيته ، وجرحت شفته ،وشج جبينه ، فلما قيل له : ادع عليهم قال :
اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون
ورد عن زيد بن سعنة أنه قال :
لم يبق من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه هما : أنه يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، قال زيد بن سعنة: فكنت أتلطَّف له أي بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن أخالطه ، فأعرف حلمه وجهله ، فابتعت منه تمراً ـ اشتريت منه تمراً ـ إلى أجلٍ ، فأعطيته الثمن ، فأعطاه . أي أن هذا زيد اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمراً ، أعطاه الثمن ولم يقبض البضاعة ، طبعاً إلى أجل هكذا الشرط ـ فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخذت بمجامع قميصه ، ورداؤه على عنقه ، ونظرت إليه بوجهٍ غليظٍ ثم قلت :
ألا تقضين يا محمد حقي ، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ
كان سيدنا عمر موجود ، وهذا يهودي ، قال له :
أي عدو الله تقول هذا لرسول الله ، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك
ماذا كان يحاذر سيدنا عمر ؟ كان هناك اتفاق مع اليهود ، فلو ضربه لانتهِك هذا الاتفاق ، كان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى عمر بتؤدةٍ وسكونٍ وتبسم ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :
أنا وهو ـ أي أنا وزيد ـ كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وأن تأمره بحسن المقاضاة ، ثم قال : اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً ، مكان ما رعته
أي خوفته ـ أي مقابل فزعه ، ففعل ذلك عمر .قال زيد : فقلت :
يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما هما : أنه يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ـ يبدو أن هذه الصفات وردت في التوراة ـ فقد اختبرته بهما ، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً
إقرأ أيضا:مباسطته صلى الله عليه وسلَّم لجلسائه وتوسعه معهمفهذا الذي قرأ في التوراة صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما التقى به عرفها كلها إلا هاتين الصفتين، فأراد أن يتأكد، أيسبق حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلماً ؟ فتلطَّف إليه حتى أقام علاقةً تجاريةً معه ، دفع له ثمن التمر ، ثم جاء يطلب الأداء قبل الأجل ، ثم جذبه من ردائه وأغلظ له القول ، وحينما هذا اليهودي رأى هذا الحلم الشديد سكنت نفسه ، وأعلن إسلامه ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
أسلم زيدٌ وأسلم أهل بيته كلهم إلا شيخاً كبيراً غلبت عليه الشِقْوَة .
إذا أوذي في نفسه عفا وصفح:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ – أي صار فيها حمرةٌ من أثر الجبذة – قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : المال مال الله وأنا عبده ، وأستغفر الله لا أحملك حتى تُقيِدَني ، من جذبتك التي جذبتني بهاـ أريد أن آخذ حقي منك ـ فقال الأعرابي : والله لا أُقِيدكها ـ أي لا أعطيك أن تأخذ مني حقك ـ فقال عليه الصلاة والسلام : لمَ ؟ فقال الأعرابي : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا النبي الكريم رجلاً وهو عمر فقال : احمل له على بعيريه هذين على بعيرٍ تمراً وعلى بعيرٍ شعيراً. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى
هذه لو فعلها الأعرابي مع أي إنسان آخر قوي قطعت رقبته وانتهى الأمر.
غضب النبي صلى الله عليه وسلم:
أولاً: النبي لم يغضب لنفسه :
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي في نفسه عفا وصفح ، ولكن إذا انتهكت حرمةٌ من حرم الله عز وجل غضب ، لما شُجَّ وجهه الشريف يوم أحد عفا وقال :
اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يغضب كذلك قال :
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ
[من صحيح مسلم : عن أم سليم]
ولكن ما الذي كان يغضبه ؟
أقول لكم أيها الإخوة : قل لي ما الذي يغضبك أقل لك من أنت ؟
الآن نحن مع غضب النبي عليه الصلاة والسلام ، كان عليه الصلاة والسلام يغضب لله تعالى ويرضى لرضاه ، لم يكن تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، ولم يكن يغضب لنفسه ، بل كان يغضب لربه تعالى .
وقد جاء في حديث هند بن أبي هالة يصف النبي صلى الله عليه وسلم :
لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تُعُرِّضَ للحق لم يعرفه أحد ، ولن يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها
أي أنه لا يغضب إلا لله ، أما لنفسه فلا يغضب .
ثانياً: حوادث أغضبت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
حادثة1: لما شغله اليهود عن الصلاة:
لما شغله اليهود عن الصلاة يوم الخندق ، لم يعف عنهم بل
قال صلى الله عليه وسلم :
مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا
حادثة2: لما رأى في البيت قِرَاماً فيه الصور:
مرةً غضب حينما رأى في البيت قِرَاماً فيه الصور
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ
فقد كان حديث عهد بالأصنام ، هؤلاء الذين كانوا يصنعون الأصنام ويصورونها ، هؤلاء يعيشون في مجتمع الشرك ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يغضب أشد الغضب من هؤلاء الذين يصورون هذه التصاوير ، طبعاً خوفاً من أن تعبد من دون الله .
حادثة3: مِن العمل الذي ينفِّر المؤمن:
مِن هذا غضبه صلى الله عليه وسلم ، مِن العمل الذي ينفِّر المؤمن،
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ :
وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ـ أي يطيل الصلاة بنا ـ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ
كان عليه الصلاة والسلام يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، والسنة أن تقرأ في صلاة الفجر السور الطويلة ، الواقعة مثلاً ، الحجرات ، من السنة أن تقرأها بأكملها في كل ركعة ، وكان كما يروي كُتَّاب السيرة في أعلى درجات نشوته ، وانغماسه في القرب من ربه ، بدأ الصلاة ، وقرأ الفاتحة ، فسمع طفلاً يبكي ، فقرأ أقصر سورةٍ وسلَّم ، فعجب أصحابه من هذا ، ليس هذا من عادته ، كان إذا صلى الفجر قرأ طوال السور ، فقد أراد أن يرحم أم هذا الغلام الصغير الذي كان يبكي ويناديها ببكائه .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ:
أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ ، وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ
[من سنن النسائي : عن جابر]
كان عليه الصلاة والسلام كما قال أصحابه يتخولنا بالموعظة ، مخافة السآمة علينا
وكان يقول صلى الله عليه وسلم :
روحوا القلوب ساعةً بعد الساعة
[من الجامع الصغير]
حادثة4: عندما وجد وسخه في المسجد:
ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم لما رأى النُخامة في المسجد ، ذلك لأن المساجد ينبغي أن يحرص المسلم على نظافتها وكرامتها ، ولا يجوز إلقاء الوسخ فيها ، و قد تقدَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنظافة المسجد .
حادثة5: عندما أراد بعض الصحابة الإثقال على أنفسهم بالعبادة:
ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم من شدة الإثقال ، والإحراج ، وشدة الإلحاح ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً – أي قبع في غرفته – مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيرًا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ
النبي أراد أن يصلي نافلة ، لو صلاها في المسجد لأصبحت سنة مؤكدة ، فأثقل على أمته من بعده ، فدخل إلى غرفته ليصلي هذه الصلاة ، تبعه الرجال وصلوا معه هذه الصلاة ، فغضب ، و لم يفهموا عليه ، هو إذا فعل شيئاً أصبح فرضاً ، أو أصبح سنةً ثابتة ، فلما دخل إلى غرفةً ليصلي تبعه الرجال وصلوا معه ، صلوا بصلاته وكأنه إمامهم ، واقتدوا به، فغضب عليه الصلاة والسلام ، فخرج إليهم مغضباً ، وقال لهم :
مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ
كانت الأشياء التي ترهق أمته يفعلها حيناً ولا يفعلها حيناً آخر ، لم لا يفعلها لئلا يلزم بها الناس من بعده .
ثالثاً: كان النبي الكريم يملك نفسه عند الغضب:
لكن النقطة الدقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب ، إلا أن شدة غضبه مهما بلغت لم تكن لتخرجه عن الحق ـ هذه نقطة مهمة جداً ـ
لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول :
عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ
[من مسند أحمد : عن ابن عباس]
الحقيقة هي أن الإنسان معرض لأن يغضب لكن لا بد من كوابح ، والأبلغ أن تتغاضب لا أن تغضب ، ما الفرق بين التغاضب والغضب ؟ التغاضب أنت تملك زمام نفسك ، أما إذا غضبت عندئذٍ لا تملك زمام نفسك، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب ملك زمام نفسه ، والإنسان القوي الإرادة يكون
كما قال عليه الصلاة والسلام :
لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ
[من صحيح البخاري : عن أبي هريرة]
الحقيقة بطولتك أن تملك نفسك ،
حتى إن الدين كله في إجماله سيطرةٌ على الذات
و لقد قال بعضهم :
حضارة الإسلام سيطرةٌ على الذات ، وربما كانت حضارة غير المسلمين ، سيطرةٌ على الطبيعة
فقد غاصوا في البحار ، وصعدوا إلى الأجواء ، كما قال أحد زعماء إنكلترا :
ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا
فالإنسان أمام نفسه ضعيف يتهاوى ، ولكنَّهُ قد يملك القوة التي يفعل بها ما يشاء .
رابعاً: حتى عند غضب النبي لا ينطق إلا حقاً:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :
كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ
الحق في الغضب والحق في الرضا إذاً فالنبي كان يغضب ، ولكن كان يغضب لله ، و إذا غضب لله فلا يخرجه غضبه عن الحق ، لكنّ الناس أحياناً إذا غضبوا خرجوا عن الحق، وإذا أحبوا خرجوا عن الحق ، فأحياناً الإنسان رضاه عن شخصٍ يخرجه عن الحق ، وغضبه على شخصٍ يخرجه عن الحق ، فالبطولة أن تبقى مع الحق في الرضا والغضب.
والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع لكل المعاني التي سبقت :
أمرني ربي بتسع ؛ خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ، ونظري عبرةً
والحمد الله رب العالمين
منقول عن: السيرة – شمائل الرسول 1995 – الدرس (12-32) : اختياره أن يكون نبيا عبداً من أن يكون نبياً ملكاً – حلمه وعطفه – غضبه
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1994-12-26