شهر شعبان
شهر شعبان يقع ضمن الشهور الهجرية المتعلّة بتولّد الهلال، وهو الشهر الذي يأتي بين رجب ورمضان، وقد كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يخصّه بمزيد من الطاعات والقربات، خاصّة بالصيام، وهو شهر يغفل عنه الناس كما أخبر بذلك النبي الكريم، وقد جرت فيه أحداث كثيرة دوّنها المؤرخون في السيرة النبوية، ومن أهمّها تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام كان السنة الثانية للهجرة في شهر شعبان، حيث كان المسلمون قد اتّجهوا في صلاتهم للبيت المقدس بضعة عشر شهراً، ثمّ شاء الله أنْ تنتقل وجهتهم في الصلاة صوب المسجد الحرام، قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)،[١] وفي شهر شعبان أيضاً نزلت فريضة صومُ رمضان، وفُرضت زكاة الفطر، وشهد مقبرة البقيع احتضان أول جثمان، حيث دفن فيها الصحابي عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وفي شعبان وُلد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، وفي شهر شعبان من نفس العام جرت وقائع غزوة بني المصطلق،[٢] ولقد كان تنبيه النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الشهر مثار اهتمام العلماء، ويتساءل بعض المسلمين عن حكم صيامه، وعن الحكمة من إكثار النبي الكريم من الصيام فيه.
إقرأ أيضا:ما حكم الطهارةحكم صيام شعبان
تناول العلماء موضوع صيام شهر شعبان بالبحث، وقد ورد في شأنه كثير من الأحاديث والمأثورات الصحيحة من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أهل العلم:[٣][٤]
- من المندوب للمسلم صيام شهر شعبان كلّه أو بعضه؛ حيث صحّ بذلك الخبر، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم يكنِ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يصومُ شهراً أكثرَ من شَعبانَ، فإنه كان يصومُ شعبانَ كلَّه).[٥]
- نبّه أهل العلم إلى أنّ صيام شعبان يُستثنى منه تخصيص النصف الثاني منه بالصّوم، لما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قوله: (إذا بَقِيَ نِصْفٌ من شعبانَ فلا تَصُومُوا).[٦]
- أفتوا العلماء بجواز الصيام في النصف الثاني من شهر شعبان في عدّة أحوال:
- إذا كان من عادة المرء صيام يومي الاثنين والخميس، أو صيام الأيام البيض من كلّ شهر، فوافق عادة صيامه النصف الثاني من شعبان جاز له ذلك، ولا يعدّ مخالفاً للنّهي بتخصيص النصف الثاني منه بصيام.
- يجوز لمن بدأ في صيام شهر شعبان من أوله أنْ يصوم في نصفه الثاني، ولو كان صيامه في النصف الأول متقطّعاً.
- يجوز الصيام في النصف الثاني من شعبان لمن عقد نيّته على قضاء ما فاته من صيام واجب، أو لزمه نذر متعلّق بصيام، أو كان صومه كفارة لأمرٍ ما.
صيام اليوم الأخير من شعبان
- آخر يوم في شهر شعبان: وهو اليوم المتمّم له، والمختوم به، ويسمّى عند أهل الفقه بيوم الشكّ، حيث تكتمل به أيام شهر شعبان ثلاثون يوماً في حال تعذّرت رؤية هلال شهر رمضان ليلة التاسع والعشرين من شهر شعبان، في حال وقع احتمال رؤيته، لذا قال بعض أهل العلم إنّ يوم التاسع والعشرين من شعبان لا يكون يوم شكّ،[٧][٨] بينما يكون اليوم اللاحق بالتاسع والعشرين من شعبان هو يوم الشكّ؛ لأنّه محلّ انتفاء اليقين في كونه يوماً متمّماً لشعبان، أو أول يوم لرمضان.[٩]
- حكم صيام آخر يوم من شعبان: أهل الفقه في مسألة صوم يوم الشكّ من شهر شعبان على عدّة مذاهب:[١٠]
- المذهب الأول: عدم جواز صيامه بنيّة الاحتياط لإدراك رمضان من أوله، وجاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه فرّق بين اليوم إن كان غائماً أو صحواً، وتبنّى هذا الرأي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
- المذهب الثاني: جمهور الفقهاء أجازوا صيامه لمن كان له عادة صيام، ووافقت عادته يوم الشكّ، كما سبق ذكره، كيومي الاثنين والخميس، أو ما في حكمها، كقضاء فائت واجب، مع العلم أنّ بعض السّلف قالوا بالنّهي المطلق، استناداً لضرورة الفصل بيوم فطر بين شهري شعبان ورمضان.
- المذهب الثالث: بعض السّلف ذهبوا إلى كراهة صوم يوم الشكّ بنية التطوّع غير المقيّد بعادة صيام، لكنّ الإمام مالك -رحمه الله- أفتى بجوازه، والإمام الشافعي -رحمه الله- ففصّل؛ فأجازه لمن وافق يوم الشكّ عنده عادة صيام راتبة.
- العلماء الذين تبنّوا الرأي بالنهي عن سبق شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، استندوا إلى ما جاء في الحديث أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا تقْدُموا رمضانَ بصومِ يومٍ ولا يومينِ، إلّا رجلٌ كان يصومُ صوماً، فلْيصمْه)[١١][١٠]
الدلالات الشرعية للصيام في شعبان
يستند أهل العلم في بيان الدلالات الشرعية لصيام شهر شعبان أنّ أسامة بن زيد -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ذات يوم فقال: (يا رسولَ اللَّهِ، لم أرك تَصومُ شَهْراً منَ الشُّهورِ ما تصومُ من شعبانَ، قالَ: ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ)،[١٢] ومن الوقفات المباركة لأهل العلم في مضامين ومعاني هذا الحديث الشريف:[١٣]
إقرأ أيضا:حكم مسح الوجه بعد الدعاء- أشار النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلى غفلة الناس عن العمل الصالح في شهر شعبان، حيث إنّه يقع بين شهري رجب ورمضان، وفي ذلك إشعار أنّ انشغال العباد بالطاعات في رجب ورمضان يصرفهما عن الهمّة في تحصيل الأجور في شعبان.
- يحمل النّص النبوي إشارة لا تخفى بأنّ اشتهار فضل شهر على آخر في أذهان العباد ليس دليلاً على أنّ غير المشتهر عندهم ليس بأفضل من المشتَهَر.
- يتضمن الحديث دلالةً على استحباب الهمّة في الطاعات والقربات في الأوقات التي تشهد غفلة الناس، وأنّ الله -تعالى- يحبّ هذا من عباده، إذ إنّ تطويع المرء نفسه للطاعة في مثل هذه الأوقات أثقل عليه من الأوقات التي ينشط فيها عموم المسلمين في صالح الأعمال، ومقرّر شرعاً أنّ أفضل الأعمال ما كان أشقّها على النفوس، وربما كانت الطاعات في غمرة غفلة الناس سبباً في رفع البلاء عنهم.
- إنّ الصيام في شهر شعبان تمرينٌ للنفس، وتعويد لها على الصيام في رمضان؛ فكأنّه توطئة له؛ فيصبح العبد في رمضان ألين في أداء الصالحات من الأعمال، وأكثر همّة في القربات، وأصبر على تحمّل مشاقّ الصيام.
- علّل بعض أهل العلم إكثار النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من الصيام في شهر شعبان بعدّة احتمالات:
- ربما انشغل النبي -عليه الصلاة والسلام- ببعض المشاغل التي منعته من صيام ما اعتاده في الشهور قبل شعبان؛ فأحبّ الرسول ألّا يُضيع منه ذاك الفضل قبل قدوم شهر رمضان؛ فحرص على جمع ما فات في شعبان.
- ربما أكثر من صيامه تعظيماً لمكانة شهر رمضان وحرمته، وحُسْن استقبال له.
- جاء عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- محبّته لرفع أعماله إلى الله -عزّ وجلّ- وهو على طاعة الصيام؛ فقد جاء في الحديث عن أسامة -رضي الله عنه- سابقاً أنّه شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، ويرى أهل العلم أنّ هذا رفع سنويّ، يتكرّر كلّ عام في شهر شعبان