الحدّ في الإسلام
جاء ديْنُ الإسلام ليُنّظمَ حياة البشريّة في الحياة الدُّنيا، ويرفع عنهم كلّ ما من شأنه أن يُسبّبَ لهم الأذى والعَناء، ويَسير بهم نحو بَرٍّ من الأمَان الجَسديّ والاطمئنان النفسيّ، فهو ديْن يَسعى إلى الحِفاظ على مجموعة من الأصول والضَّروريات التي تصون مَصلَحة الإنسان وتحفظُه من الضَّرر الحَاصل بانتِهاكِها. وهذه الأصول أو الضَّروريات تُعرَف بما يُسمّى (مَقاصدَ الشَريعَة)، وهي: الدِّين، والنَّفْس، والعَقْل، والنَّسْل، والمَال، فجميع أحكام الشّريعة من حَلال أو حرام أو مُباح أو مَندوْب أو مَكروْه، تَصُبّ في حِفظ هذه الأصُول الخَمسَة. ولتحقيق هذه الغايَة شَرَع النّظام الإسلامي العقوبات لدَرءِ المَفسدَة الواقِعة، وسَدِّ الخَلل الحَاصِل في حَال انتُهكتْ هذه المَقاصد أو الأصُول، فكانت هناك عُقوبَات على القَتل، والسَّرقة، والزّنا، وشُرب الخَمْر، وغيرها من الجِنايات التي تَستلزمُها. ومن هذا، يوضّح هذا المقال حَدّ شُرب الخَمْر، ابتداءاً من تعريف الخَمْر لغةً واصطلاحاً، وحكم شُربها، والحِكمَة من تحريمها، وانتهاءاً ببَيان هذا الحَدّ، وشُروط إقامَته، وبمَاذا يَثبُتْ.
تعريف الخَمْر
الخَمْرُ في اللّغة: اسم مُشتقّ من الفعل خَمَرَ، أي بمعنى غَطَّى وسَتَرَ، فيُقال: خَمَرَت المرأة وجهها أي: غَطَّته، وخَمَرَه في بيته أي: سَتَرَه، وخَمَرَ شَّهَادَته أي كَتَمَها، والخَمْرُ شرابٌ معروف سُمّيَ بذلك لأنّه يُغطّي العقل ويخمره، فيستُره عن طبيعته المعروفة، فلا يعمل بكامل قدرته وقوته.
إقرأ أيضا:حكم اقتناء الكلابأما في الاصطلاح أو التّعريف الشَرعيّ لَه فهو كلّ شرابٍ مُسْكِر من أي أصلٍ كان، سواءً من الثّمار؛ كالعنب، والتّمر، والزّبيب، أو الحُبوب؛كالشَّعير، والحِنطة، أو الحيوان؛ كلَبن الخيل، أو الطَلول؛ كالعسل،[٣] أو غيرها من المُسمّيَات والأنواع الحديثة المُنتشرة لها، كالويسكي، أو الشّمبانيا مثلاً، فهي ما تُذهب العقل، وتُفقد شاربَه الوعي والإدراك، وتَجعلَه سَكراناً.
حُكمُ شُرب الخَمْر
لقد قامَ الدّين الإسلاميّ الحَنيف بتحريم شُرب الخَمْر وكلّ المُسْكرات تحريماً شرعيّاً، فلا يجوز شُربها أبداً لا قليلها ولا كثيرها، ولا يجوز الاقتراب منها، وعُدَّ شربَها كبيرة من الكبائر، فقد أجمع الفقهاء والعُلماء على هذا التّحريم لورود الأدلّة الصَّريحة ببيان هذا التّحريم، فقال الله تعالى في مُحكَم تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فأمر الله عز وجل باجتنابها، والاجتناب أشدّ أنواع التّحريم وأعلاها درجةً؛ لأنّه أمرٌ بالبُعد قَدرَ الاستطاعة عن الشَّيء المُحرَّم. وقد وصفَها الله عز وجل بالرِجْس، والرِجْسُ في اللّغة: الشَيء القَذر في مُنتَهى القُبح. وأمّا في السُنّة النبويّة المُطّهَرة فالأدلة على تحريمها كثيرة مُتواترة تبلغ مَرتبة اليقين. فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مُسْكرٍ خَمْر وكل خَمْر حَرَام). وما رُويَ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (ما أسْكَرَ كَثيْره فقليله حَرام).
إقرأ أيضا:حكم اكل لحم الضبعالحِكمَة من تحريم شُرب الخَمْر
لمّا جاء الإسلام لحِفظ مجموعةِ الأصول التي بها تستقيم حال الإنسان، ومنها العَقلُ الذي هو زينة هذا الكائن وعنوان تميّزه عن باقي المخلوقات والكائنات ومَناطَ تكليفه، شُرِع حُكم المنع لهذه المُسكِرات وتحريمها لأجل ما تُسبّبه من مَضار كبيرة على صحّته النفسيّة والجسديّة والعقليّة، وما يَنتج عن هذه المَضار من إضعاف تواصله الاجتماعيّ مع الجماعة؛ فهي تُؤدّي إلى إفساد العلاقات بين أفراد المُجتمع الواحد ببثّ روح الشّحناء والبغضاء بين أفراده، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ)، فلا يستطيع من ذهب عقله وفقد وعيه وإدراكه أن يُتقن التّواصل مع الآخرين، فلربّما شتم هذا، أو تحرّش بتلك، أو قام بأفعال تَستلزم سُخرية الآخرين منه وانتقاص حقّه في الظّهور بالصّورة الجميلة التي كَرّمه الله بها. وفي الخمر صَدٌ عن ذكر الله عز وجلّ المُستَلزمِ للرّحمة والمغفرة، والجَالبِ للرّزق والنّعمة، والمَانعِ لحدوث المَكاره، وهي صَدٌ عن الصّلاة، أحد أركان الإسلام وأهمّ عباداته التي يتَّصل بها العَبد مع خالقه وبارئه، وفيها تسكُن رُوْحُه وتطمئنّ نفسه، وتستقرّ جوارحه عن البَطش والإيذاء.
حَدّ شارب الخَمْر
معنى الحَدْ لغة واصطلاحاً
الحَدُّ في اللّغة: مُنتَهى الشَيء ومَدَاه، أمّا في الاصطلاح فهو عقوبةٌ مُقدّرة شرعاً وجَبَت على الجاني لأجل جِناية ارتكبها. وسُميَت حَدّاً لأنّ بها يُوضع للفِعل المُستَلزِمِ للعُقوبة حَدّاً وحَاجزاً ينتَهي عِندَه فلا يَتَعدَّاه. وقد أجمعت الأُمّة على وجُوب الحَدّ على شَارب الخَمْر سَواءً سَكِر أم لا، أو كان ما شَربَه منها قليلاً أو كثيراً.
إقرأ أيضا:حكم إسبال الثوبمِقدارُه
وحَدّ شُرب الخَمْر الجَلدْ، ومِقداره أربَعون جَلدَة، أو ثَمانون، اختلف العُلماء في ذلك على قَولين:
- الأول: وبه قال الحَنابلة والمَالكيّة والحَنفيّة، والقول الرَّاجح عندهم بأنّ شَاربَ الخَمْر يُجلد ثَمانينَ جَلدة، واستدلّوا على ذلك بإجماع الصَّحابة عندما استشار عُمر رضي الله عنه الناس بمقدار الحَدّ فاشاروا عليه بذلك فأخذ به، وكتب لخالد وأبي عُبيدة بالشّام به.
- الثّاني: وهو قول الشافعيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة في رواية ثانية بأنّ مِقدارَ الحَدّ أربَعون جَلدة فقط، وجَازوا للإمام أو الحَاكم أن يَزيدَه إلى ثَمانيْن، وتُعتبر هذه الزّيادة تَعزيْراً، واستدلّوا على قولهم ذلك في أمَر عليّ رضي الله عنه لعبَد الله بن جَعفر بأن يَجلد الوليد بن عُقبة، فجَلده وعَليٌ يَعُد حتى بلغ أربَعيْن، فقال: أمْسِك، ثم قال: (جَلدَ النّبي صلى الله عليه وسلم أربَعين، وجَلدَ أبو بكر أربعين، وعُمر ثمَانين، وكلٌ سُنّة، وهذا أحَبُّ إلي)،[١٢] وحُجّتُهم في ذلك أنّ فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يَجوز تركه ولا يَنعَقد الإجماع على فِعل يُخالف فِعلَه صلّى الله علَيه وسَلم، فحُملَت الزّيادة عن الأربَعين تَعزيْر