سورة يوسف
سورة يوسف مكيّة، وعدد آياتها مئة وإحدى عشرة آيةً، وفيها عرضٌ للوقائع والعجائب التي مرّ بها سيّدنا يوسف، مثل: تعبير الرّؤيا، وحسَد الأخوة، ومحاولتهم التّفريق بين سيّدنا يوسف وأبيه، وفيها، أيضاً، تفصيلٌ لصبر يعقوب عليهِ السّلام، وعرضُ رغبةِ زوجةِ العزيز زليخة بسيّدنا يوسف، وحيرة النّساء بحُسن جمال يوسف عليهِ السّلام، كما ذكرت تسلُّمَ يوسفَ لخزائن مصرَ، وقدوم إخوته إليهِ، ورجوعهم بالبشارة إلى أبيهم يعقوب عليهِ السلّام بلقاء أخيهم يوسف عليهِ السلام.[١]
تحدّثت سورةِ يوسف عن مرحلةٍ من أهمِّ المراحلِ، وأدقّها، وأخطرها في حياةِ سيّدنا يوسف عليهِ السّلام، وهي مرحلة تعرُّضهِ للفتنِ والمؤامرات بعد أن بلغ أشُدَّهُ، وآتاهُ اللهُ من الحكمة والعلمِ الشّيءَ الكثير، وقد واجه سيّدنا يوسف عليهِ السّلام هذه الفِتَن بقلبٍ سليمٍ، وخُلُقٍ قويمٍ، فنجّاهُ الله تعالى منها.[٢]
مناسبة قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)
إحدى الفِتَن التي مَرَّ بها سيّدنا يوسف عليهِ السّلام كانت أثناء وجوده في بيت العزيز، والذي أمر امرأتهُ أن تكرّمَ مثواهُ؛ ليتّخذهُ ولداً لهما، إلّا أنّها نظرت إليه بعينٍ تختلفُ عن العينِ التي نظرَ بها زوجها إليه، فاستعملت معه الطُّرق العديدة لمُراودتهِ عن نفسهِ، وتحايُلها عليه مرّاتٍ ومرّات، وبصورةٍ متكرّرةٍ، وبشتّى وسائلِ الإغراءِ؛ لمحاولة الإيقاعِ بهِ، وما كانَ منهُ عليه السّلام إلا الامتناع، ورفض ما تريدهُ؛ خوفاً من اللهِ عزّ وجلّ، فَعَلِمَ العزيزُ ما جرى في بيتهِ، حيث أظهرَ اللهُ براءةَ يوسف عليهِ السلّام ممّا اتّهمتهُ بهِ زوجةُ العزيزِ، وقوله سبحانهُ: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)،[٣] بيانٌ لما قالهُ زوجها بعدَ أن انكشفت لهُ الحقيقة انكشافاً تامّاً، وهكذا واجه العزيزُ خيانةَ زوجته لهُ، بهذا الأسلوب الهادئ، بأنْ نسبَ كيدَها ومكرَها إلى جنسها كلّهِ، لا إليها وحدَها، فقال: (إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ).[٤] وفيهِ بيانٌ أنَّ مكرَ المرأةِ وكيدَها شديدُ التأثيرِ في النفوس، غريبٌ لا يفطَنُ له الرّجال، ولا قِبَلَ لهم بهِ، ولا حِيَلها وتدبيرِها.[٥]
إقرأ أيضا:كيف تصلى صلاة قيام الليلمفهوم كلمة الكيد
الكيد: القيامُ بشيءٍ يوجِبُ الغيظ،[٦] وقيل الكيد: إيقاعُ الضرّ بالغير بشيْء من التّدبير، وهو شبيهٌ بالمُحارَبة.[٧] والكيد عندما يكون من الله سبحانه وتعالى، يأتي بمعنى الاستدراج، أي أنّ الله عزَّ وجلَّ يستدرج الكفّار دون علمِهم شيئاً فشيئاً، بحيث يخفى الأمر عليهم.[٨]
تفسير قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)
وُصِف كيدُ النّساءِ بالعظمة في قوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)،[٣] وفي موضعٍ آخر وُصِفَ الإنسانُ بالضّعفِ، وذلك في قوله تعالى: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا)،[٩] وليس المقصودُ بالقولين أنَّ القوّةَ منسوبةٌ للنّساءِ، والضّعفَ للرّجالِ؛ فالإنسان ذكراً كان أم أنثى ضعيفٌ بالنّسبةِ إلى خلقِ ما هو أعظمُ منهُ، مثل: خلق السّمواتِ والأرض، ووصِفَ الكيد بالعظمة؛ لأنَّ كيد النّساء أدقُّ من كيدِ الرّجالِ وألطفُ، ولأنّ مكرهُنَّ أعظم من كيد البشر جميعهم؛ لأنّ لهنّ من الكيد والمكرِ والحيلِ في إتمامِ مرادهنّ ما لا يقدُر عليهِ الرّجال.[١٠]
وقوله تعالى للنّساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)،[٣] إنّما هو فيما يتعلّقُ بمعاملتهِنّ مع الرّجالِ، ولكن من ناحيةِ الفروضِ، وإدارةِ الأعمالِ، والبلدانِ، وأمور الصّناعةِ والتجارةِ، فتدبيرُ الرّجالِ أشدّ، وبأسُ الرّجالِ أقوى، حيث قال عليه الصّلاة والسّلام: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً)،[١١]فالحديث هنا يبيّن أنّ الحاكم يجب أن يكون ذكراً، ولا يصلح لامرأةٍ تولّي الحُكم، أو أيّ عملٍ من أعمال المسلمين عامّةً؛ ذلك أنّ هذه المناصب والأعمال تحتاجُ إلى كمال الرّأي، والبُعد عن العاطفةِ، التي تتملّك المرأة في معظم شؤون حياتها.[١٢]
إقرأ أيضا:الفرق بين الصوم والصيام في القرآنالكيدُ علامةُ ضعفٍ
يرى البعضُ أنَّ المكرَ دليلُ ضعفٍ لا دليل قوّةٍ؛ لأنّ من معاني المكرِ التّثبيتُ في الخفاء، والمكر هو الشّجرُ الملتفُّ بعضهُ على بعضهِ الآخر؛ حيث لا نعرف أيَّ ورقةٍ تنمو من أيِّ جذعٍ أو فرعٍ؛ فالضّعفاءُ لا يواجهون لضعفِهم، أمّا الأقوياءُ فيواجهون ولا يبيتون؛ ولذلك يُقالُ: إنَّ الذي يكيد لغيره إنّما هو الضّعيف؛ لأن الإنسان الواضح الصّريح القادر على المواجهة هو القويّ. وهناك من يجعل ضعف النّساء دافعاً لهنَّ على قوّةِ المكر، استناداً إلى قولهِ تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)،[١٣] وقوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)،[٣] فلا يكيد إلا الضّعيف، ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت، ولو كان قادراً على المواجهةِ لما احتاجَ المكرَ، وقد يمكر كثيرٌ من البشر، ويبيتونَ بخفاءٍ عن غيرهم، إلا أنَّهم لا يستطيعون أن يعملوا بخفاءٍ عن الله عزّ وجلّ؛ لأنَّهُ عليمٌ بخفايا الصّدور، وأمر الحقّ في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله سبحانه: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).[١٤]
بما أنّ صفةَ الكيد عظيمةٌ، فالضّعفُ أعظم؛ لأنَّ الضّعيف إذا وجد فرصةً لهُ استغلّها واغتنمها؛ خوفاً من عدم تكرار مثلها ثانيةً، لذلك يندفع إلى قتل خصمه، والانقضاض عليه بقوّته كلّها، أمّا القوي فهو يثق بقوّتهِ وقدراتهِ؛ لذلك قد يترك خصمَه مرّةً، ويعطيهِ فرصاً أخرى للتّراجعِ، وإن أساءَ عاقبَهُ على قدرِ إساءَتهِ، ودليلُ ذلكَ قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)؛[١٥] أي يضمر الذين كفروا الكيد والتّبييت للرسول عليه الصّلاة والسلام بالمكر، لكنّهم لا يعلمون أنّ مَنْ أرسله لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم ما يُسِرّون، وقد يقدرون على المكر لمن هم في مثلهم من القدرة، لكنّ رسول الله مُحاطٌ بعناية الله تعالى وقدرته؛ فهو حامل رسالته، وفي حفظه ورعايته
إقرأ أيضا:ما الفرق بين المكي والمدني من حيث التعريف