الله والمخلوق

تعريف الحكمة

إذا كان الإنسان ممن لا يتهوك ([1]   في أفعاله، ولا يشتط في أقواله، وهو مع ذلك يرمي إلى قصد نبيل، وغاية محمودة، تحفه الأناة والتعقل، ونفاذ بصيرة في العواقب. فإنه يسمى: حكيما.
 
فالحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، والحكماء قوم رزقوا حسن تدبير في الأفعال، وجمال عبارة في الأقوال، وترتيبا للأمور بعضها على بعض، مراعين في ذلك جلب المصلحة ودفع المفسدة ([2]).
 
وقد امتن الله سبحانه على بعض عباده فآتاه الحكمة، كما قال تعالى: }يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا{[البقرة: 269].
 
قال ابن جرير الطبري: “فتأويل الكلام: يؤتى الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ومن يؤتيه الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا” ا هـ ([3]).
 
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعملها»[متفق عليه].
 
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعريفا جميلاً للحكمة ـ تناقله الناس من بعده ـ فقال: “فالحكمة إذا: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي”([4]).
 
وترد (الحكمة) في القرآن على نوعين: ([5])
 
النوع الأول: أن تأتي مقرونة بالكتاب، فهي بمعنى السنة، وهذا محل إجماع من السلف كما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ([6])، ومثال ذلك قوله تعالى: }وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ{[النساء: 113].
 
وقوله تعالى:  } لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ { [آل عمران: 164].
 
 
والنوع الثاني: أن تأتي مجردة من الاقتران بالكتاب، كقوله تعالى: }وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ{[لقمان: 12].
 
وقوله تعالى: }وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ {[ص: 20]. وقوله تعالى: }حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ{[القمر: 5].
 
فهذه لها معان كثيرة إذ يختلف المراد بها باختلاف السياق، وإن كانت جميعها ترجع إلى معنى الإصابة في القول والفعل كما ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لكن يستثنى من ذلك النبوة فهي أعلى درجة من الحكمة وليست جزء منها ([7]).
 
فإذا كان الناس يرون أن من اتصف بالحكمة فقد اتصف بصفة من صفات الكمال ـ على ما في البشر من قصور وتقصير وعلى أن الاتصاف بها أمر نسبي أيضا ـ فكيف بالله العظيم جل جلاله الذي له الكمال المطلق، والمثل الأعلى.
 
ومن المقرر في مسائل الاعتقاد أن كل كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق، ولا يلحقه من ذلك نقص بوجه من الوجوه، فالخالق أولى به، إذ لولا ذلك لكان المخلوق أكمل من الخالق وهذا محال ([8]).
 
إن من أسماء الله الحسنى: الحكيم، (ومعناه: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير)([9]).
 
وهذا الاسم الجليل (الحكيم) يتضمن إثبات صفة الحكمة لله تعالى، التي تعني أنه لا يخلق ولا يأمر عبثا وسدى وباطلا، بل له المراد فيما أراد، وأفعاله صادرة عن حكمة بالغة، ومصلحة عظيمة، وغاية حميدة ([10]).
 
وكمال حكمته جل شأنه يقتضي كمال علمه سبحانه المحيط بكل شيء كما قال تعالى: }إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{[الشورى: 12]، وقال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ{[آل عمران: 5]، وقال: }وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ{[الأنبياء: 81].
 
ولهذا جمع الله بين الصفتين ـ الحكمة والعلم ـ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: }إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{[يوسف: 100]، وقوله: }إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ{[الذاريات: 30]، وقوله: }إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{[الأنعام: 128]. وقد ورد هذا الاسم الجليل (الحكيم) في القرآن أربعا وتسعين مرة ([11]).
 
 
__________________________________________________________________________________________________________________
 
 ([1])قال ابن الأثير: التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية، فالمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير. النهاية في غريب الحديث والأثر 5/282.
 
([2])انظر: المفردات للراغب 249، والنهاية لابن الأثير 6/418 – 419.
 
([3])جامع البيان للطبري (3/60 – 61).
 
([4])مدارج السالكين 2/449.
 
([5])ذكر ذلك ابن القيم كما في التفسير القيم (226 – 227) لكنه محل بحث وتأمل لأنه ورد في القرآن ذكر الحكمة مقرونا بالكتاب ولم يكن المراد بها السنة كقوله تعالى: }فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ{[النساء: 54]، وقوله: }وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ{[المائدة: 110] ونحو ذلك من الآيات، إلا أن يقال بأنه متى كان الخطاب موجها للنبي rأو لأزواجه أو لأصحابه أو لأمته فإن المراد بالحكمة: السنة، حينئذ فلا إشكال فيه كقوله تعالى: }وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ{[الأحزاب: 34].
 
([6])انظر: الرسالة للشافعي 87.
 
([7])انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 2/487 – 492، الحكمة والموعظة الحسنة وأثرهما في الدعوة إلى الله للشيخ المورعي (87 – 96)، فقد سرد المعاني التي ذكرها العلماء في تفسير الحكمة وأطال في ذلك وأجاد.
 
([8])انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/87) وشرح العقيدة الواسطية للهراس (74) ويسمى هذا القياس بقياس الأولى.
 
([9])المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/191) ونقله عنه البيهقي في الأسماء والصفات (1/67).
 
([10])انظر: شفاء العليل لابن القيم (400) وهو كتاب نفيس في هذا الباب.
 
([11])انظر: النهج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد الحمود (1/226) والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد المدخلي (17).

إقرأ أيضا:عجز الداروينيين عن تفسير كيفية نشوء حاسة الشم
السابق
أنواع حكمته سبحانه وتعالى:
التالي
بحث رائع: الدخان الكوني