إنّ أهمّ ما يجب على العبد العنايةُ به في هذه الحياة الإيمان فهو أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة بل إنّ كل خير في الدُّنيا والآخرة متوقف على الإيمان الصّحيح فهو أعظم المطالب وأجل المقاصد وأنبل الأهداف فبالإيمان يحيا العبد الحياة الطيبة في الدارين وينجو من المكاره والشرور والشدائد ويدرك جميل العطايا وواسع المواهب،
وبالإيمان ينال ثواب الآخرة فيدخل جنّةً عرضُها كعرض السماء والأرض فيها من النّعيم المقيم والفضل العظيم ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وبالإيمان ينجو العبد من نارٍ عذابُها شديد وقعرها بعيد وحرُّها أليم، وبالإيمان يفوز العبد برضا ربه سبحانه فلا يسخط عليه أبدًا ويتلذّذ يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم في غير ضرّاءَ مُضرّة ولا فتنة مُضلّة، وبالإيمان يطمئن القلب، وتسكن النفس، ويسر الفؤاد {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وكم للإيمان من الفوائد العظيمة والآثار المباركة والثمار اليانعة والخير المستمر في الدنيا والآخرة مالا يُحصِيه ولا يُحيط به إلا الله {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
والإيمان شجرةٌ مباركةٌ عظيمةُ النفع، غزيرةُ الفائدة، كثيرةُ الثَّمَر، لها مكان تغرس فيه، ولها سقي خاص، ولها أصل وفرع وثمار،
إقرأ أيضا:أحكام الخطبةأما مكانها فهو قلبُ المؤمن فيه توضع بذورها وأصولها، ومنه تنشأُ أغصانها وفروعها،
وأما سقيها فهو الوحي المبين كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فبه تسقى هذه الشجرة المباركة ولا حياة لها ولا نماء إلا به،
وأما أصلها فهو أصول الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأعلى هذه الأصول: الإيمان بالله، فهو أصل أصول هذه الشجرة المباركة،
وأما فروعها فهي الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة والقربات العديدة التي يقوم بها المؤمن من صلاة وزكاة وحجٍّ وصيام وبر وإحسان وغير ذلك، وأما ثمارُها فكلُّ خير وسعادة ينالها المؤمن في الدّنيا والآخرة فهو ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
والناس يتفاوتون في الإيمان تفاوتًا عظيمًا بحسب تفاوتهم في هذه الأوصاف قوّةً وضعفًا وزيادةً ونقصًا فجدير بالعبد المسلم الناصح لنفسه أن يجتهد في معرفة هذه الأوصاف ويتأمّلها ثم يطبقها في حياته ليزدادَ إيمانُه ويقوى يقينُه ويَعْظُمَ حظُّه من الخير كما عليه أن يحفظ نفسه من الوقوع في الأمور التي تنقص الإيمان وتضعف الدِّين ليسلمَ من عواقبها الوخيمة ومغبَّتِها الأليمة.
إقرأ أيضا:هل يجوز التكلم في ذاته تعالى بالعقل ؟وللإيمان أسباب كثيرة تزيده وتقويه أهمها: تعلُّمُ العلمَ النافع، وقراءةُ القرآن الكريم وتدبّرُه، ومعرفةُ أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتأمُّلُ محاسن الدِّين الإسلامي الحنيف، ودراسةُ سيرةِ نبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم وسيرِ أصحابه الكرام، والتأمّلُ والنظرُ في هذا الكون الفسيح وما فيه من دلالات باهرة وحجج ظاهرة وآيات بيِّنة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
كما أنّ الإيمان يزيد بالجدِّ والاجتهاد في طاعة الله والمحافظة على أوامره وحفظ الأوقات في طاعته وما يقرِّب إليه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وللإيمان أسبابٌ كثيرة تُنقِصُه وتُضعِفُه، يجبُ على العبد المؤمن أن يحتَرِزَ منها وأن يحتاطَ عن الوقوع في شيء منها، وأهمُّها: الجهلُ بدين الله، والغفلةُ، والإعراضُ، وفعلُ المعاصي، وارتكابُ الذنوب، وطاعةُ النفس الأمّارة بالسوء، ومخالطةُ أهل الفسق والفجور، واتّباعُ الهوى والشيطان، والاغترارُ بالدنيا والافتتانُ بها؛ بحيث تكون غايةَ مُنى الإنسان وأكبرَ مقصوده.
ولما تحقّق سلفُ الأمة وصدرُها وخيارُها بعظم شأن الإيمان وشدّة الحاجة إليه وأنّ الحاجةَ إليه أعظمُ من الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء كانت عنايتُهم به عظيمةً ومقدَّمة على كلِّ أمر، فكانوا يتعاهدون إيمانَهم ويتفقدون أعمالهم ويتواصون بينهم:
كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول لأصحابه: “هلمُّوا نزددْ إيمانًا”.
إقرأ أيضا:دعوة إلى الإيمان بالله _ الجزء الأولوكان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول: “اجلسوا بنا نَزْدَد إيمانًا”، وكان يقول في دعائه: “اللهم زدني إيمانًا ويقينًا وفقهًا”.
وكان عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: “تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ولنزددْ إيمانًا بطاعته لعلّه يذكرُنا بمغفرته”.
وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: “مِن فِقْه العبد: أن يعلم أمُزداد هو أو منتقص – أي: من الإيمان -، وإنّ من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه”.
وكان عمير بن حبيب الخطمي – رضي الله عنه – يقول: “الإيمان يزيد وينقص”، فقيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: “إذا ذكرنا الله – عز وجل – وحمِدناه وسبَّحناه فذلك زيادته، وإذا غفَلْنا وضيَّعنا ونسينا فذلك نقصانه”، والنقول في هذا المعنى عنهم كثيرة.
ولهذا فإن العبد المؤمن الموفَّق لا يزال يسعى في حياته بتحقيق أمرين عظيمين، ومطلبين جليلين:
الأول: تقوية الإيمان وفروعه والتحقق بها علمًا وعملًا.
والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها من الفتن الظاهرة والباطنة.
ويداوي ما قصَّر فيه من الأول وما تجرّأ عليه من الثاني بالتوبة النصوح وتدارك الأمر قبل الفوات والإقبال على الله – جلّ وعلا – إقبالا صادقًا بقلبٍ مُنيبٍ، ونفسٍ مُخبِتةٍ مُطمئنةٍ مُقبِلةٍ على الله ترجو رحمة الله، وتخاف عقابه.
روى الحاكم في “المستدرك”، والطبراني في “المعجم الكبير” عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسألوا الله أن يجدِّد الإيمان في قلوبكم»، فوصف – صلى الله عليه وسلم – الإيمان بأنه يَخْلَقُ كما يَخْلَقُ الثوب؛ أي: أنه يَبْلى ويَضْعُفُ ويدخله النّقصُ من جرَّاء ما قد يقع فيه المرءُ من معاصٍ وآثام وما يلقاه في هذه الحياة من مُلهياتٍ وصوارفَ متنوعةٍ تصرفه عن الإيمان، وفتنٍ عظام تُذهبُ جِدَةَ الإيمان وحيويتَه وقوَّتَه وتُضعِفُ جمالَه وحُسنَه وبَهاءَه؛ وها هنا أرشد النبي – عليه الصلاة والسلام – إلى ضرورة تجديد الإيمان في القلب بالتوجُّه الصّادق إلى الله – جلّ وعلا – قال: «فاسْأَلُوا اللهَ أن يُجدِّد الإيمان في قلوبكم»، فالمقام يتطلَّبُ توجُّهًا صادقًا إلى الله وسؤالًا ملحًا إليه – تبارك وتعالى – أن يزيد الإيمان ويُقوِّيه وأن يُجدِّده في القلب وأن يُمكِّنه فيه، والله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
إن الإيمان جمالٌ للمرء وزينةٌ، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول في دعائه: «اللهم زيِّنَّا بزينةِ الإيمان، واجعَلْنَا هُداةً مُهتدين».
وللإيمان حلاوةٌ وطعمٌ ولذّةٌ لا نظير لها، يقول – صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعمَ الإيمان من رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولاً»، وفي الحديث الآخر يقول – عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وَجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار».
فمن الخير للعبد المؤمن: أن ينصح لنفسه في إيمانه الذي هو أغلى شيء لديه وأثمنُ أمر عنده وهو خير زادٍ للقاء الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنَّ علينا جميعًا بتحقيق ذلك وتكميله على الوجه الذي يرضيه عنّا، وأن يرزقنا جميعًا إيمانًا صادقًا، ويقينًا كاملًا، وتوبةً نصوحًا، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، إنه هو الغفور الرحيم.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ الله وسلّم على نبيِّنا محمد.