مع توقع النبى صلى الله عليه وسلم الموت القريب، وظهور علاماته عليه، ظل قائماً بواجب إعزاز الإسلام، ونشر الدعوة وحمايتها، ورد غارة المعتدين والمتربصين بالدولة المسلمة الجديدة.. ففي صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً تحت قيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه تمهيداً لفتح الشام والعراق، وكان ذلك آخر البعوث النبوية، قال ابن هشام: “وهو آخر بَعْث (بعْث أسامة) بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وقال ابن حجر: “كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم”.
وأسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه نشأ منذ ولادته لا يعرف إلا الإسلام، وكان رسول الله يحبه حبًّا شديداً، وكان عنده كبعض أهله، وكان أبوه ـ زيد بن حارثة ـ يسمى “حِبّ رسول الله”، ولذا كان أسامة رضي الله عنه معروفاً بين الصحابة “بالحِبَّ ابن الحِبّ”.
ولما كان أسامة رضي الله عنه شاباً، لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن البعض أكثروا القول في تأميره وتوليته أمر قيادة الجيش الإسلامي، وشاع بينهم القيل والقال، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً (سرية)، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد (جعله أميراً على الجيش)، فطُعِن في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إن كان لخليقاً للإمرة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده) رواه البخاري.
قال ابن حجر: “قوله: (فطُعِن في إمارته) بضم الطاء على البناء للمجهول، وقوله: (إن تطعنوا في إمارته) فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه، أي: إن طعنتم فيه فأخبركم بأنكم طعنتم من قبل في أبيه، والتقدير: إن تطعنوا في إمارته فقد أثمتم بذلك، لأن طعنكم بذلك ليس حقاً، كما كنتم تطعنون في إمارة أبيه وظهرت كفايته وصلاحيته للإمارة، وأنه كان مستحقاً لها، فلم يكن لطعنكم مستند، فلذلك لا اعتبار بطعنكم في إمارة ولده ولا التفات إليه”. وقال التوربشتي: “إنّما طعن من طعن في إمارتهما لأنّهما كانا من الموالي، وكانت العرب لا ترى تأمير الموالي وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف، فلمّا جاء الله عز وجل بالإسلام، ورفع قدْر مَن لم يكن عندهم قدر بالمسابقة، والهِجرة، والعلم، والتُّقى، عرف حقَّهم المحفوظون من أهل الدين، فأمّا المرتهنون بالعادة، والممتحنون بحب الرياسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك، لا سيّما أهل النفاق، فإنّهم كانوا يسارعون إلى الطعن وشدّة النكير عليه”. وقال ابن حجر: “وفيه جواز إمارة المولى، وتولية الصغار على الكبار، والمفضول على الفاضل”.
أخذ الناس يلتفون حول أسامة رضي الله عنه، وينتظمون في جيشه تحت إمرته، فسار بهم حتى نزلوا مكاناً يُسَمَّى: الجُرْف، على بعد خمسة كيلو مترات ونصف من المدينة المنورة إلى جهة الشام، إلا أن الأخبار وصلتهم عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فتوقف الجيش عن السير انتظاراً لشفائه من مرضه، إذ ليس بالأمر الهين أن يتركوا المدينة المنورة ونبيهم صلى الله عليه وسلم يشكو المرض وهم لا يعلمون ما وراءه، ولكن المرض اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وتُوفي بعد أيام، واختاره الله عز وجل إلى جواره بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة.
وبعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبويع لأبي بكر رضي الله عنه وأصبح خليفة للمسلمين، ارتدَّ من العرب من ارتد عن الإسلام، فدخل على أبي بكر رضي الله عنه بعض الصحابة ـ كما ذكر الواقدي في المغازي ـ فقالوا: “يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب، وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا، اجعلهم عدة لأهل الردة، ترمي بهم في نحورهم! وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه (حتى يقر قراره ويستقيم)، وتعود الرِّدَّة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا! فلما استوعب أبو بكر رضي الله عنه منهم كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟ قالوا: لا، قد سمعت مقالتنا، فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننتُ أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه، ورسول الله ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أسامة!”. فلما رأى المعترضون ما فعله وقاله خليفتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه سكتوا واطمأنت وطابت نفوسهم.
وبالفعل خرج جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، واستطاع هذا الجيش أن يقوم بمهمته على خير وجه، ويعود ظافراً منتصراً إلى المدينة المنورة، وظهرت موهبة قائد الجيش الفذة في قيادة جيشه والعودة به سالما منتصراً، وأثبت أنه كان – على صغر سنِّه – جديراً بهذه القيادة، قال عروة: “فما رُئِيَ جَيْشٌ كان أسْلَم مِنْ ذلك الجيش”، وقال الزهري: “كان أسامة بن زيد يخاطَب بالأمير حتى مات، يقولون: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
لقد كانت سرية وبعث أسامة بن زيد رضي الله عنه آخر سرية جهّزها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، وأوّل سرية جهّزها أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه بعد أن بويع واسْتُخْلِف، وفي تولية أسامة بن زيد رضي الله عنه على جيشٍ مُطَعَّمٍ بكبار الصحابة وفضلائهم، وهو في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، تأكيد من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الإسلام يمحو ما قبله من عادات وتقاليد جاهلية تختصّ بشروط الرئاسة والقيادة، فالسنّ والشرف والجاه والمال، التي كانت تُعدّ شروطاً أساسية فيمن يُراد توليته، أصبح بدلاً عنها في الإسلام: التقوى، وحُبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفاءة القيادية..
كما أن هذه السرية المباركة كانت نعمة عظيمة على الإسلام والمسلمين، فقد جعلها الله تعالى سبباً لعدم ارتداد كثير من طوائف العرب، ففي البداية والنهاية لابن كثير: ” فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم (نتركهم) حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام”.
وقد أظهرت هذه السرية الأدب العظيم الذي كان يتمتّع به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحُسن انقيادهم له، وطاعتهم وتوقيرهم لأمره حتّى بعد وفاته، ولذا قال أبو بكر رضي الله عنه: “والذي نفسي بيده، لو ظننتُ أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذتُ هذا البعث، ولا بدأت بأول منه”، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ” كان عمر يقول: ما كنت لأحيي أحدا بالإمارة غير أسامة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِض وهو أمير”.
إقرأ أيضا:حَجّة أبي بكر الصديق رضي الله عنهكما كان في هذه البعثة إرعاباً لأعداء الإسلام والمسلمين، وتثبيطاً لمعنوياتهم، ومحواً لغبطتهم وسرورهم بموت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومِمَّا يدلّ على ذلك ويؤيّده اندهاش الروم وتعجُّبهم من قوّة المسلمين وتماسُكِهم رغم فداحة مصابهم بموت نبيهم صلى الله عليه وسلم، ففي الطبقات الكبرى لابن سعد قال: “فَقُدِمَ بِنَعْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل، وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بالَىَ هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا”، وقال الذهبي: “فقالت الروم: مَا بَالُ هَؤُلاء! يموت صاحبهم وأغاروا على أرضنا؟”.
وقال ابن تيمية: “وإنما أنفذ جيش أسامةَ أبو بكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفاً عليهم، فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه، فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما أيد الله به الدين، وشد به قلوب المؤمنين، وأذل به الكفار والمنافقين، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق، وإيمانه ويقينه وتدبيره”.
ويتبيّن من إصرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعث هذه السّريّة وهو في أشدّ حالات المرض الذي توفي فيه مدى حكمته وما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من الأهمية الاستراتيجية لإرسالها إلى تلك المنطقة الهامة بالنسبة للدولة الإسلامية الجديدة، والتي أصبحت تمثل تطلّعات المسلمين لنشر الإسلام والدعوة إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء للجزيرة العربية فقط، بل أرسله الله تعالى وبعثه للبشرية كلها كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(سبأ: 28).