يتلخص المنظور الديني للعقل في تميز الإنسان بخصوصيتين محوريتين يختلف بهما عن باقي الكائنات، الخصوصية الأولى هي تمتع الإنسان بالقدرات العقلية وحرية الإرادة والمشاعر الروحية، والخصوصية الثانية هي نفخة الروح الغيبية التي اختص بها الانسان، وبالربط بين هاتين الخصوصيتين نستنتج أن النفخة الغيبية هي المسئولة عن القدرات العقلية.
أما المنظور المادي الخاص بأنصار الداروينية فيُرجع قدرات الإنسان العقلية والروحية إلى التطور العشوائي الذي أدى إلى زيادة حجم وتعقيد الطبقة الخارجية لمخ الإنسان، والتي تُعرف بالقشرة المخية، كما يعتبر الماديون أن المهام العقلية نشاط مباشر للمخ المادي، يقوم به كما تقوم الكلى بإفراز البول وكما يفرز الكبد الصفراء.
فأين تكمن الحقيقة بين الرؤيتين؟
نبدأ الإجابة عن هذا السؤال بأن نؤكد أن هناك فرقاً جذرياً بين المخ والعقل، فالفرق بينهما كالفرق بين نُطق الكلمة ومعنى الكلمة، فالنطق آلية من عالم الطبيعة المادي، إنه عبارة عن صوت مستمر تُخرجه الحنجرة على هيئة ذبذبات واهتزازات في الهواء، ثم يُحدث الحلق واللسان والشفتان تقطعات في هذا الصوت فيتشكل على هيئة حروف وكلمات، بذلك فإن نطق الكلمات عملية فيزيائية بشكل كامل، أما المعنى فشيء آخر، فقد يكون تعبيراً عن الحب أو إعلاناً للحرب أو أي مفهوم آخر، إن معنى الكلمات شيء خارج عن هذه الآليات المادية وعن تركيب الكون المادي!.
إقرأ أيضا:هل التصميم الذكي عِلم؟ ج 2ومن أجل أن ندرك مدى تعقيد العمليات العقلية للإنسان وتميزها عن مختلف الكائنات الأخرى، واستحالة أن تكون ناتجاً مباشراً للتطور الدارويني، اخترنا أن تكون لنا وقفات مع أربعة من النشاطات العقلية للإنسان، تُظهر لنا أن ما يتمتع به العقل البشري من قدرات لا بد أن يكون وراءها إله حكيم خبير.
حرية الإرادة:
يقول الحق تعالى في كتابه الحكيم:
“إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (الأحزاب: 72)
وللأمانة الواردة في الآية الكريمة عدد من المعاني منها الخلافة، ومنها العقل، ومنها حرية الإرادة، وكلها معانٍ متكاملة.
ويقول الحق تعالى:”وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا.فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا.وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا“.(الشمس: 7-10)
وتشير الآيات إلى أن النفس الإنسانية قد شُكلت لتمارس الخطأ والصواب، وأن العقل يقوم بعقلها وتوجيهها في أي من الطريقين.
لذلك نعتقد أن حرية الإرادة وممارسة الاختيار هي أهم نشاطات الإنسان العقلية التي تميزه عما سواه من الكائنات، واستحق بها من الله تعالى منزلة الخلافة في الأرض.
إقرأ أيضا:الإلحاد ومكارم الأخلاق.. علاقة يشوبها الغموض!أكذوبة الحتمية الجينية والحتمية التربوية:
يُعتبر التوصل إلى بنية الشفرة الوراثية (الدنا DNA) في خمسينيات القرن العشرين أحد أعظم الاكتشافات في تاريخ علم البيولوجيا، عندها ظن العلماء أنهم توصلوا إلى سر الحياة، واعتبروا أن الشفرة الوراثية = (الكروموسومات = الجينات = الدنا) المسئولة عن بناء بروتينات الخلية مسئولة أيضاً عن سلوكياتنا وانفعالاتنا، أي أنك إذا ورثت جين نقص السعادة فستظل غير سعيد في حياتك، وقد تبنى الملاحدة هذا المفهوم وروَّجوا أن حياتنا هي التي تحدد مساراتنا ومصائرنا، أي أننا عبيد لجيناتنا.
كذلك تعتبر “المدرسة التربوية” أن الإنسان يُولد بمخ كالصفحة البيضاء، وأن التربية والتنشئة هي التي تخط سطور هذه الصفحة، فتحدد لنا مفاهيمنا السلوكية وأخلاقنا التي توجه اختياراتنا، مما يعني أن هناك “حتمية تربوية” مثلما هناك “حتمية جينية”، وقد سعد الملاحدة بتلك النظرة التي تنزع عن الإنسان حرية إرادته التي هي العمود المحوري في المنظومة الدينية.
ومنذ العقد الأخير من القرن العشرين، تبدلت نظرة العلم لمفهوم حرية الإرادة الإنسانية، فقد أثبت العلم أن الظروف البيئية المحيطة بالإنسان وكذلك حالته المزاجية والنفسية وأيضاً رغباته وإرادته هي المنظمة لنشاط الجينات، وبدلاً من المفهوم السائد بأن الجين الواحد يوجه حتماً نشاطاً واحداً، فقد ثبت أن البيئة والحالة النفسية والروحية للإنسان وإرادته توجه الجين لتبني واحداً من عدة آلاف من الانشطة، بذلك تلاشت الحتمية الجينية وثبت أن الإنسان هو سيد مصيره.
إقرأ أيضا:“مليارات الحِلَق المفقودة”.. خفايا لا يفسرها “الارتقاء”وبالمثل أثبت العلم أن دور التربية، وإن كان ذا تأثير على السلوك الإنساني، فإنه محدود؛ فالإنسان يولد بعدد من المفاهيم البديهية الأساسية وليس كصفحة بيضاء، كما يمارس قدراً كبيراً من حرية الإرادة بالرغم من خلفيته التربوية.
وخير دليل على خطأ ادعاء الحتمية الجينية والتربوية أن القضاء في جميع دول العالم حتى الملحدة منها (كالصين والاتحاد السوفيتي القديم) يحاسب الجاني على جريمته باعتبار أنه مسئول عنها، ولم يدع أحد من عتاة الملاحدة في الغرب إلى إسقاط العقوبة بدعوى الحتمية وانعدام الحرية الإنسانية!!.
اللغة:
تُعتبر اللغة أحد أهم النشاطات العقلية التي تميز الإنسان، ويستخدم الإنسان عناصر اللغة بشكل تلقائي وببساطة شديدة، بحيث يبدو التفكير في ماهيتها أمراً لا معنى له.
ويعتبر الداروينيون أن اللغة ” نشأت تطوراً” عن الأصوات التي كانت أسلاف الإنسان تصدرها، والتي تشبه الأصوات التي تصدرها قردة الشمبانزي، ولكن منذ ستينات القرن العشرين حدثت ثورة في نظرة العلم للغات البشرية، فقد ثبت أن ملكة اللغة مبرمجة فطرياً (جينياً) في بنية أدمغتنا، وأن لغات العالم جميعها تشترك في نفس القواعد العميقة التي تحكمها.
ويقف وراء هذه الثورة اللغوية ناعوم تشومسكي أكبر عالم لغويات في القرن العشرين، فقد توصل إلى مفهومين جديدين في علوم اللغويات، المفهوم الأول هو “الأجرومية” وتعني أن الطفل يولد ومخه مُعد لتكوين جمل صحيحة ذات معنى، فبمجرد تلقيه بعض المفردات وبعض العبارات يصبح قادراً (بالقياس عليها) على تكوين ما لا نهاية له من الجمل صحيحة التركيب، والمفهوم الثاني هو الأجرومية (النظام) العالمية، وتعني أن الجنس البشري بأكمله يتعامل مع اللغة بطريقة متماثلة مع اختلاف أصوله ولغاته، ومن هذا التماثل أن الجملة تتركب من فعل وفاعل ومفعول به، وأن للأحداث زمناً ماضياً ومضارعاً ومستقبلاً وغيرها.
وقد حدا تشومسكي ذلك إلى رفض مفهوم تطور اللغة البشرية عن اللغات الأدني للكائنات الأخرى، واعتبر أن اللغة ظاهرة جديدة تماماً، “انبثقت” عندما وصل المخ البشري إلى بنية بالغة التعقيد، و”الانبثاق” عند العلماء يحمل معنى “الخلق الجديد” الذي ينفي أن يكون الأمر قد حدث تطوراً، لذلك يصف تشومسكي نشأة اللغة بـ “الانفجار اللغوي الأعظم” تشبهاً بالانفجار الكوني الأعظم الذي أنشأ الكون من عدم، أي أن اللغة قد انبثقت من العدم وبُرمجت خلقياً ( جينياً) في أدمغتنا.
إن ما أثبته العلم من عجز التطور العشوائي عن إنشاء لغة الإنسان، وما أثبته كذلك من “انبثاق” اللغة الإنسانية كظاهرة جديدة تماماً، لا يدع لنا إلا قولاً واحداً لتفسير هذه النشأة، وهو الخلق الإلهي المباشر.
ويخبرنا الله تعالى في قرآنه الكريم عن اكتساب الإنسان لخمس مهارات متتابعة تشكل جوهر اللغة الإنسانية، وهذه المهارات هي:
- “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (البقرة:31)
وتعليم آدم الأسماء يعني أنه تعلم أن يطلق على كل شيء اسماً، سواء كان شيئاً مادياً كالماء والسماء، أو شيئاً غير مادي كالألم والضوء، أو معنى مجرداً كالحرية والسعادة، وهذا ما يُعرف في علم اللغويات “بالترميز” والقدرة على الترميز من أرقى الملكات العقلية الإنسانية التي لا يمارسها سواه، وتعتبر أحد الفروق الجوهرية بين الإنسان وغيره من الكائنات.
- “خَلَقَ الْإِنْسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ” ( الرحمن: 3، 4)
والبيان هو “صياغة الأفكار بتعقل وتبعاً لقواعد” ويستعمل الإنسان في ذلك الرموز التي أطلقها على الأشياء، كما يستعمل قواعد اللغة المُبرمجة في عقله.
- “فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ” ( الذاريات: 23)
و” النطق” هو المرحلة التالية في اللغة المنطوقة، ويقوم بها جهاز النطق( الحنجرة والبلعوم والفم) والمراكز المخية المسئولة عن عمل هذا الجهاز.
- لا يكون لهذه المنظومة فائدة وقيمة بدون “مستقبل للمعلومات المنطوقة” لذلك خلق الله تعالى لنا السمع: “وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ“(النحل:78)
- وتكتمل منظومة اللغة الإنسانية بأن “يعقل” الإنسان ما يسمعه ويفهمه: “كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ“(الروم:28).
وقد توصل الطب الحديث إلى أنواع من الخلل الذي يمكن أن يصيب هذه المنظومة، فمن إنسان لا يعقل ما يسمعه، إلى آخر غير قادر على السمع، إلى ثالث غير قادر على النطق، وآخر لا يستطيع صياغة أفكاره، على أخير ينظر على الشيء ولا يجد له في عقله اسماً، فقد عجز عن الترميز.
سبحانك اللهم، إذ وهبت الإنسان هذه القدرة على الكلام، التي هي بعضٌ من صفاتك فالقرآن كلام الله الذي كلم موسى تكليماً.
هذه هي بعض المفاهيم التي يعجز المنظور الإلحادي عن تفسيرها، أو تقديم تحليل موضوعي لها.. والبقية نتبعها في الجزء الثاني من المقال