تناولنا في الجزء الأول مفهوم الوحي في الإسلام والفرق بين الوحي واللاوحي من المنظور الإسلامي. أما في هذا الجزء الثاني سنتناول مفهوم الوحي في المسيحية وما إذا كان الكتاب المقدس وحيا من الله عز وجل ومدى حجيته كنص مقدس وإمكانية العمل به في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية ورؤية السيد المسيح والسيدة مريم العذراء وحجية ذلك في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية.
الوحي الإلهي واللاوحي في المسيحية
شأنهم شأن المسلمين، يؤمن المسيحيون بإمكانية تواصل الإنسان مع العالم الغيبي ورؤيته لأمور ليست من قبيل الواقع المشاهد الذي نراه بأعيننا في هذا العالم. ولكن للأسف اختلط الوحي بما هو ليس منه في المسيحية وكذلك اليهودية بحيث يتعذر الآن التمييز بين الوحي واللاوحي في المسيحية.
الكتاب المقدس وحجيته ككلام موحى به من عند الله
بادئ ذي بدء، من العجيب أن “الكتاب المقدس” كاسم مفترض للكتب المنزلة على الأنبياء ابتداء بموسى وانتهاء بالسيد المسيح عليهم السلام غير موجود في الكتاب المقدس نفسه. كما أن تسمية جزئيه بـ”العهد القديم” و”العهد الجديد” تسمية غير موجودة كذلك في الكتاب المقدس.
والكتاب المقدس في صورته الحالية لا يعدو كونه مجموعة من الكتابات الدينية القديمة مجهولة المصدر في مجملها باعتراف المسيحيين أنفسهم. فردا على سؤال: ما هو الكتاب المقدس؟ يجيب موقع الأنبا تكلا: “يطلق هذا الاسم على مجموع الأسفار الإلهية التي كتبها أناس الله القديسون مسوقين (موجهين) من الروح القدس المكونة للعهدين القديم والجديد والمؤلفة من 73 سفرًا – 46 العهد القديم، 27 العهد الجديد (وذلك بإضافة السبع أسفار القانونية الثانية)…”
إقرأ أيضا:مفهوم التثليث: بين سواجرت وديداتوتحت عنوان “لمحة عنه” أي عن الكتاب المقدس، يذكر نفس الموقع: “يرجع تاريخ البدء في كتابة الكتاب المقدس إلى 3472 سنة مضت، فقد دعا الله موسى ليبدأ في تدوين أسفاره الخمسة الأولى عام 1512 قبل الميلاد، واستغرق تدوينه حوالي 1610 سنة، فقد سجلت آخر أسفار العهد الجديد عام 98 ميلادية، ولقد قام بكتابته أشخاص كثيرون لم يعرف منهم سوى 40 شخصا، أولهم نبي الله موسى وآخرهم يوحنا”
ومن الغريب أن هناك خلاف بين الطوائف المسيحية حول عدد أسفار الكتاب المقدس. فيؤمن الأرثوذكس والكاثوليك بأن عدد أسفار الكتاب المقدس 73 سفرا، بينما يؤمن البروتستانت بأن عدد أسفار الكتاب المقدس 66 سفرا فقط. كما أنهم (البروتستانت) لا يقبلون القوانين الكنسية ولا المجامع المقدسة وقراراتها ولا يلتزمون بتعاليم الآباء. وبالتالي لا يقبلون كل ما قدمه التقليد من نظم كنسية.
وإذا كان الكتاب المقدس كذلك، لم يكن وحيا من الله عز وجل. فإذا استعرضنا الكتاب المقدس سفرا سفرا وإصحاحا إصحاحا، لم نجد فيه ما يثبت أن الكلام الوارد فيه في مجمله وحي من الله.
وإننا بذلك لا ننكر أن الكتاب المقدس فيه بعض كلام الله، ولكننا نقول أنه في صورته الحالية لا تصح نسبته إجمالا إلى الله تعالى كوحي منه جل جلاله لأنه كما ذكرنا في القرآن الكريم أن للوحي كيفية معلومة في التلقي عن الله عز وجل والنقل إلينا. ففي ثنايا الكتاب المقدس بعض كلام الله المنقول ربما بلفظه الإلهي المقدس أو بلفظ بشري ولا نستطيع التمييز الآن بين هذا وذاك.
إقرأ أيضا:العقوبات (الحدود) البدنية بين الكتاب المقدس والقرآن الكريمفعلى سبيل المثال، ليس في سفر التكوين ولا اللاويين ولا الأعداد ما يفيد أنهم من كلام الله أو أنهم أنزلوا على موسى. وأما سفر الخروج، ففيه ما يفيد أن الله أوحى إلى موسى ببعض كلامه ولكن هل يذكر أن هذا الكلام هو الوارد في سفر الخروج؟ ففي سفر الخروج نقرأ: وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: «اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لاسْتِقْبَالِ مُوسَى». فَذَهَبَ وَالْتَقَاهُ فِي جَبَلِ اللهِ وَقَبَّلَهُ. فَأَخْبَرَ مُوسَى هَارُونَ بِجَمِيعِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَبِكُلِّ الآيَاتِ الَّتِي أَوْصَاهُ بِهَا. ثُمَّ مَضَى مُوسَى وَهَارُونُ وَجَمَعَا جَمِيعَ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَكَلَّمَ هَارُونُ بِجَمِيعِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى بِهِ، وَصَنَعَ الآيَاتِ أَمَامَ عُيُونِ الشَّعْبِ. (الخروج 27:4-30)
ويذكر سفر الخروج أن موسى عليه السلام كتب كلام الله وقرأه على بني إسرائيل، ولكن هل هذا الكلام هو الوارد في سفر الخروج؟ ففي سفر الخروج نقرأ: فَكَتَبَ مُوسَى جَمِيعَ أَقْوَالِ الرَّبِّ. وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ وَبَنَى مَذْبَحًا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَاثْنَيْ عَشَرَ عَمُودًا لأَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. وَأَرْسَلَ فِتْيَانَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ، وَذَبَحُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ مِنَ الثِّيرَانِ. فَأَخَذَ مُوسَى نِصْفَ الدَّمِ وَوَضَعَهُ فِي الطُّسُوسِ. وَنِصْفَ الدَّمِ رَشَّهُ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَأَخَذَ كِتَابَ الْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ، فَقَالُوا: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ». (الخروج 4:24-7)
ويخبرنا سفر الخروج أن موسى عليه السلام قد تلقى الوصايا العشر على لوحين. ولكن ماذا عن باقي محتويات الكتاب المقدس؟ ففي سفر الخروج نقرأ: وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اكْتُبْ لِنَفْسِكَ هذِهِ الْكَلِمَاتِ، لأَنَّنِي بِحَسَبِ هذِهِ الْكَلِمَاتِ قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ إِسْرَائِيلَ». وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرَ. (الخروج 27:34-28)
إقرأ أيضا:طبيعة كوكب الأرض بين الكتاب المقدس والقرآن الكريمأما سفر التثنية، فهو السفر الوحيد الذي يشير نصه إلى أنه كلام من الله لموسى عليه السلام، ولكن هل سفر التثنية فقط هو التوراة؟ فأين بقية التوراة؟
ومن الغريب أنه في نهاية سفر التثنية، يتم التمهيد ليشوع ولسفر يشوع وذلك بعد الحديث عن وفاة موسى. فهل باقي أسفار العهد القديم من التوراة أم ماذا؟ وكيف يستمر تنزيل التوراة بعد وفاة النبي موسى؟
مما لا شك فيه أن الأسفار من بعد سفر التثنية حتى بداية أسفار العهد الجديد ما هي إلا كتابات دينية قديمة عن الأنبياء الذين أرسلوا من بعد موسى وحتى إرسال السيد المسيح. ومن ثم، فهي ليست وحيا من الله وإنما هي مجرد تأريخ لسير الأنبياء في الفترة ما بين بعثة النبي موسى حتى بعثة السيد المسيح عليهما السلام.
وأما العهد الجديد، فيبدأ بأربعة أناجيل أو بشائر ذات محتوى متشابه تحكي سيرة السيد المسيح وفقا لأربعة مؤرخين أو كتّاب سير وهم: متى ومرقس ولوقا ويوحنا. ومن الغريب أن هذه الأناجيل وآخرها إنجيل يوحنا تنتهي بعبارات غريبة على النحو التالي: “هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ. وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ”. (يوحنا 24:21-25)
فالمفترض أن هذه العبارات من نص إنجيل يوحنا، ومعنى ذلك أن هذه العبارات من كلام يوحنا. ولكن من الواضح أن هذه العبارات بل وإنجيل يوحنا كله منقول عن المدعو يوحنا ولا نعلم تحديدا من كتب هذا الإنجيل.
وبعد الأناجيل أو البشائر الأربعة، نجد أن العهد الجديد قد ضُمّن رسائل المفترض أنها من رسل السيد المسيح إلى بعض الناس. والسؤال الآن هو: هل كلام رسل السيد المسيح إلى الناس من كلام الله أي كلام موحى به من الله؟
وينتهي الكتاب المقدس والعهد الجديد بسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهو عبارة عن رؤيا يرويها شخص المفترض أنه من رسل السيد المسيح. وعلى افتراض أن هذا الشخص هو فعلا أحد رسل السيد المسيح، فكيف يدرج كلامه في الكتاب المقدس على اعتبار أنه من كلام الله؟
الكتاب المقدس وحجيته في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية
حيث إن الكتاب المقدس كما بينا لا يمكن أن يعتبر وحيا من كلام الله، فكذلك لا يمكن أن يكون للكتاب المقدس حجية في الأحكام الشرعية ولا المسائل العقدية. وإذا سلمنا جدلا بأن له حجية، فمن المفترض أن تقتصر هذه الحجية على كلام نبيي الله موسى في العهد القديم باعتباره التوراة وعيسى المسيح في العهد الجديد باعتباره الإنجيل.
ولكن الغريب في الكتاب المقدس ولا سيما العهد الجديد أن الأحكام الشرعية والمسائل العقدية تؤخذ عن غير السيد المسيح. فأما الأحكام الشرعية، فنجد بولس على سبيل المثال يدعو إلى التبتل وينفر من الزواج ناهيك عن تعدد الزوجات على الرغم من أن السيد المسيح لم يتطرق إلى هذه الأمور حسبما أثر عنه في الأناجيل الأربعة.
ففي العهد الجديد نقرأ: “وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأُمُورِ الَّتِي كَتَبْتُمْ لِي عَنْهَا: فَحَسَنٌ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يَمَسَّ امْرَأَةً”. (1 كورنثوس 1:7)، كما نقرأ أيضا: “فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، صَاحِيًا، عَاقِلاً، مُحْتَشِمًا، مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ” (1 تيموثاوس 2:3)
وأما المسائل العقدية، فنجد بولس أيضا على سبيل المثال ينسب الجهل والضعف لله عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ففي العهد الجديد نقرأ: “لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!” (كورنثوس الأولى 25:1)
رؤية المسيح والعذراء وحجية ذلك في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية
يفشو في المسيحية الحديث عن رؤية السيد المسيح أو السيدة مريم العذراء سواء في المنام أو حال اليقظة وإيراد كلام معين نقلا عن السيد المسيح في الكتاب المقدس والعمل به في الأحكام والشرعية والمسائل العقدية.
فعلى سبيل المثال، يخبرنا الكتاب المقدس في عهده الجديد أن السيد المسيح قد ظهر لشاول وهو بولس وتحدث إليه تمهيدا لجعله أحد رسله. ففي العهد الجديد نقرأ: فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» فَقَالَ: «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ: «أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ». فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «قُمْ وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ». (أعمال الرسل 4:9-6)
والعجيب أن شاول أو بولس هذا اعتبر من رسل السيد المسيح على الرغم من أنه لم يقابل المسيح ولو للحظة حال حياته وضُمّنت رسائل بولس إلى الناس ضمن العهد الجديد باعتبارها من كلام الله. وأصبح شاول أو بولس هذا يمثل مرجعية دينية للمسيحية يُحلّ ويُحرّم ويَفصل في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية.
والأعجب من ذلك، أننا نجد الكثير من المسيحيين يتحدثون عن ظهور السيد المسيح لهم بمنتهى السهولة كما لو كان “عفريت العلبة” أو “جني الفانوس” الذي يظهر كلما أرادوا رؤيته. والحق والحقيقة أنه لا حجية لذلك على الإطلاق، فلا يعتد بهذا الظهور لا في النصوص الدينية ولا الأحكام الشرعية ولا المسائل العقدية وذلك ببساطة لأنه لا دليل على أن هذا الشبح الظاهر هو بالفعل السيد المسيح ولا أدل على ذلك من أننا نجد من ادعى رؤية السيد المسيح عاجزا عن وصف ملامح وجهه وكل ما يتحدث عنه هو ظهور هالة من النور حول رجل فحسب.
ومما يدعو للسخرية أننا نجد أصدقاءنا المسيحيين يؤكدون إمكانية ظهور المسيح لغير المسيحيين عند التفكير في التحول إلى المسيحية. وفي الحقيقة، لا يمكن أن تبنى أمور العقيدة على خوارق العادات والخرافات والأساطير، وإلا لكان السحر والشعوذة والجان أولى بالتصديق والاعتقاد. وإنما تبنى العقيدة على المعتقد الصحيح الموافق للعقل والنقل والذي لا يجد المرء غضاضة في الإيمان به.