شكوك وإجابات

اللادينية.. معضلة وجود الشر على الأرض (الجزء الثالث)

لعل أحد أكثر الأسئلة التي تدور في أذهان الشباب.. هو ما يعرف فلسفيا باسم سؤال الشر.. وهو بكل بساطة.. لماذا خلق الله الشر و الفقر والمعاناة والحروب و الأمراض؟ لماذا يموت الأطفال في سوريا؟ لماذا يموت الأطفال جوعا في أفريقيا؟ أليس الله هو الرحمن الرحيم؟ فكيف يمتلئ الكون بكل هذه المآسي؟

إعداد فريق التحرير

يصنف البعض الكثير من الشبهات والاستفسارات الدينية واضعا إياها تحت مظلة الإلحاد.. غافلا عن كون الإلحاد كمفهوم عام ينقسم ويتفرع لعدة أقسام.. من بينها مفهوم اللادينية أو الربوبية.. والتي تُعتبر اتجاها فكريا يرفض مرجعية الدين في حياة الإنسان ويؤمن بحق الإنسان في رسم حاضره ومستقبله واختيار مصيره بنفسه دون وصاية دين أو التزام بشريعة دينية، وترى أن النص الديني هو مجرد نص بشري محض لا ينطوي على قداسة خاصة ولا يعبر عن الحقيقة المطلقة

فهم فرقة يؤمنون بوجود خالق ولا يؤمنون بأي ديانة.. و يعتقدون أن الله خلق الكون وجعل له نظاما لكنه لا يتدخل به، وسبب هذا الاعتقاد كما يدعون أنهم لا يرون تدخل الخالق في الكوارث الطبيعية وأنه لا يوجد دليل على تدخله.

لا يسألون الله في شدة ولا في رخاء لئلا دليل بزعمهم على أن الله يستجيب الدعاء، ويعتقدون بأن الله خلقهم وخلق لهم نظامهم وهي الطبيعة وتركهم لكي يتمتعون بحياتهم.

إقرأ أيضا:رحلة الإسراء والمعراج.. معجزة إلهية أم فكرة فلسفية؟!

وعليه فإن كل ملحد هو لاديني.. ولكن ليس كل لاديني ملحد تماما خالصا في إلحاده.

ولمن يعتنقون الفكر اللاديني مجموعة شبهات خاصة سنحاول جمعها وترتيبها ونشر الأجوبة المتعلقة بها في سلسلة مقالات خاصة…

من الأفكار اللادينية.. لماذا خلق الله الشر

لعل أحد أكثر الأسئلة التي تدور في أذهان الشباب.. هو ما يعرف فلسفيا باسم سؤال الشر.. وهو بكل بساطة.. لماذا خلق الله الشر و الفقر والمعاناة والحروب و الأمراض؟ لماذا يموت الأطفال في سوريا؟ لماذا يموت الأطفال جوعا في أفريقيا؟ أليس الله هو الرحمن الرحيم؟ فكيف يمتلئ الكون بكل هذه المآسي؟ وتتبعه طبعا أسئلة فردية تتعلق بالعدل السماوي مثل..

لماذا تزوج الجميع ولم أتزوج أنا؟ لماذا يمتلك بعض الناس كل شيء، ولا يمتلك بعض الناس أي شيء؟ لماذا خلقتني دميمة؟ لماذا أنا قصير؟ ما الحكمة من كوني فقيرا مدقعا؟ لماذا لا أنجب أطفالا كغيري؟ أين هذا العدل الذي يتحدثون يا الله أين؟!

طبعا سيكون من الرائع لو تمكننا من الحصول على إجابة عن كل تلك المتناقضات التي ترهق أرواحنا.. ومع أن هذا يبدو مستحيلا الآن.. إلا أن حوارا عظيما قد دار فعليا قبل ثلاثة وثلاثين قرنا من الآن.. ونُقل لنا كاملا..

إقرأ أيضا:الموسوعة الكاثوليكية الجديدة

لكن قبل شرح هذا الحوار.. دعونا نتحدث قليلا عن خلفية صاحب هذا الحوار.. نبي الله موسى.. والخلفية عن هذا النبي مهمة جدا حتى لا تقول لنفسك موسى نبي وأنا بشر.. بل ستكتشف أنه أحد أكثر الأنبياء اقترابا منا.

إذا استعرض المسلم العادي سيرة الأنبياء الذين ذكروا في القرآن الكريم، عليهم جميعا أتم الصلاة و التسليم.. فسيلاحظ ببساطة أن كل واحد منهم تقريبا كان يمتلك ميزة تميزه عما سواه.. و بالتالي فمن الصعب أن يجد المسلم نفسه في واحد منهم.. فنحن لا نمتلك صبر أيوب مثلا.. ولا ملك سليمان.. ولا جمال يوسف وعفته..

كما أن الطمأنينة التي كانت لدى إبراهيم بعيدة تماما عن القلق الذي نشعر به.. وبالطبع أخلاق محمد العالية ليست في المتناول.. بخلاف نبي الله موسى الذي بدر منه ردود أفعال في مواقف مختلفة تشبه ردود أفعالنا كبشر عاديين.

المهم أن نبي الله موسى.. كان لديه كما لدينا الكثير من الأسئلة.. ليس أقلها رؤية الله “… قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ…” (الأعراف:143) لكن الأهم على ما يبدو.. هو عندما سأل موسى ربه عن القدر.. وكيف يعمل؟.. وهي بالذات عين أسئلتنا اليوم.. فطلب منه الله عز وجل أن يلاقي الخضر عليه السلام..

والحقيقة التي يجب أن تذكر هنا.. أن بعض الأدبيات تسطح مفهوم الخضر وتختزله في صفة ولي من أولياء الله.. في حين أنني أرى أن الخضر عليه السلام يمثل القدر نفسه.. يمثل بشكل فلسفي يد الله التي تغير أقدار الناس.. و الجميل أن هذا القدر يتكلم.. لذلك نحن الآن سنقرأ حوارا بين نبي بشري مثلنا تماما.. لديه نفس أسئلتنا.. و بين قدر الله المتكلم.. و لنقرأ هذا الحوار من زاوية جديدة..

إقرأ أيضا:الإلحاد الجديد .. الرؤية بمنظور عبد الله العجيري (2/2)

أول جزء في الحوار كان وصف هذا القدر المتكلم.. “آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا” (الكهف:65) أي أنه قدر رحيم وعليم.. و هذا أصل مهم جدا..

ثم يقول نبي الله موسى: “…هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا” (الكهف:66).. يرد الخضر: “قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا” (الكهف: 67،68) جواب جوهري جدا.. فَهم أقدار الله فوق إمكانيات عقلك البشري.. ولن تصبر على التناقضات التي تراها..

 يرد نبي الله موسى بكل فضول البشر “… سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا“(الكهف:69).. يرد الخضر: “فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا“(الكهف:70).. يمضي الرجل و النبي.. يركبان قاربا لمساكين يعملون في البحر.. يقوم الخضر بخرق القارب.. و واضح تماما أن أصحاب المركب عانوا كثيرا من فعلة الخضر؛ لأن موسى تساءل بقوة عن هذا الشر كما نتساءل نحن.. “… أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا” (الكهف: 71)…

عتاب للقدر!

 عتاب للقدر.. تماما كما نعاتب نحن.. أخلقتني بلا ذرية كي تشمت بي الناس؟ أفصلتني من عملي كي أصبح فقيرا؟ نفس الأسئلة..

 يسكت الخضر ويمضي.. طبعا الشاهد الأساسي هنا أن أصحاب المركب عانوا أشد المعاناة.. وكادوا أن يغرقوا.. وتعطلت مصلحتهم وباب رزقهم.. لكن ما لبثوا أن عرفوا بعد ذهاب الخضر ومجيء الملك الظالم أن خرق القارب كان شرا مفيدا لهم.. لأن الملك لم يأخذ القارب غصبا..

نكمل.. موسى لا زال في حيرته.. لكنه يسير مع الخضر الذي يؤكد لموسى.. “أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا” (الكهف: 72) ألم أقل لك يا إنسان أنك أقل من أن تفهم الأقدار..

 يمضي الرجلان.. يقوم الخضر الذي وصفناه بالرحيم العليم بقتل الغلام.. ويمضي.. فيجن جنون موسى.. ويعاتب بلهجة أشد.. “… أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا” (الكهف: 74).. تحول من إمرا إلى نُكرا.. نفس حواراتنا عندما يقول البعض أن الأقدار ظالمة و منكرة..

 والكلام صادر عن نبي أُوحي إليه.. لكنه مثلنا.. ويعيش نفس حيرتنا.. يؤكد له الخضر مرة أخرى “أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا” (الكهف:75)..

 طبعا هنا أصل مهم.. أننا كمسلمون قرأنا القرآن ونظرنا للصورة من فوق.. فنحن نعرف أن الخضر فعل ذلك لأن هذا الغلام كان سيكون سيئا مع أمه وأبيه.. “… كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا” (الكهف:80).

والسؤال.. هل عرفت أم الفتى بذلك؟ هل أخبرها الخضر؟ الجواب لا.. بالتأكيد قلبها انفطر وأمضت الليالي الطويلة حزنا على هذا الفتى الذي ربته سنينا في حجرها ليأتي رجل غريب يقتله ويمضي.. وبالتأكيد.. هي لم تستطع أبدا أن تعرف أن الطفل الثاني كان تعويضا عن الأول.. وأن الأول كان سيكون سيئا.. فهنا نحن أمام شر مستطير حدث للأم.. ولم تستطع تفسيره أبدا..

نكمل.. يصل موسى والخضر إلى القرية.. فيبني الجدار ليحمي كنز اليتامى.. هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن الجدار كان سيهدم؟ لا.. هل عرفوا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي.. الجواب قطعا لا.. هل فهم موسى السر من بناء الجدار؟ لا.. ثم مضى الخضر.. القدر المتكلم.. بعد أن شرح لموسى ولنا جميعا كيف يعمل القدر والذي يمكن تلخيصه ببساطة كالآتي..

الشر شيء نسبي.. ومفهوم الشر عندنا كبشر مفهوم قاصر.. لأننا لا نرى الصورة كاملة.. فما بدا شرا لأصحاب المركب.. اتضح أنه خير لهم.. وهذا أول نوع من القدر.. شر تراه فتحسبه شرا.. فيكشف الله لك أنه كان خيرا.. وهذا نراه كثيرا.. النوع الثاني مثل قتل الغلام.. شر تراه فتحسبه شرا.. لكنه في الحقيقة خير.. ولا يكشف الله لك ذلك.. فتعيش عمرك وأنت تعتقد أنه شر.. مثل قتل الغلام.. لم تعرف أمه أبدا لم قتل.. النوع الثالث وهو الأهم.. هو الشر الذي يصرفه الله عنك دون أن تدري.. لطف الله الخفي.. الخير الذي يسوقه إليك.. مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح..

فالخلاصة إذن.. أننا يجب أن نقتنع بكلمة الخضر الأولى “… إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا” (الكهف:75) لن تستطيع يا ابن آدم أن تفهم أقدار الله.. الصورة أكبر من عقلك.. قد تعيش وتموت وأنت تعتقد أن الله ظلمك في جزئية معينة.. لكن الحقيقة هي غير ذلك تماما..

الحقيقة أن الله قد حماك منها.. مثال بسيط.. أنت ذو بنية ضعيفة.. وتقول أن الله حرمني من الجسد القوي.. أليس من الممكن أن شخصيتك متسلطة.. ولو كنت منحت القوة لكنت افتريت على الناس؟

حرمك الله المال.. أليس من الممكن أن تكون من الذين يُفتنون بالمال وكان نهايتك ستكون وخيمة؟ حرمك الله الجمال.. أليس من الممكن أنك ذات شخصية استعراضية.. ولو كان منحك الله هذا الجمال لكان أكبر فتنة لك؟

 لماذا ننظر دائما للجانب الإيجابي للأشياء؟ ونقول حرمنا الله ليؤذينا.. نحن أصغر بكثير من أن يفكر جل وعلا في أذيتنا.. إنما كل ذلك لمصلحتنا.. لكننا لا نعي ذلك.. تماما كما لم تعه أم الغلام..

استعن بلطف الله الخفي لتصبر على أقداره التي لا تفهمهما.. وقل في نفسك.. أنا لا أفهم أقدار الله.. لكنني متسق مع ذاتي ومتصالح مع حقيقة أنني لا أفهمها.. لكنني موقن كما الراسخون في العلم أنه كل من عند ربنا..

 إذا وصلت لهذه المرحلة.. ستصل لأعلى مراحل الإيمان.. الطمأنينة.. وهذه هي الحالة التي لا يهتز فيها الإنسان لأي من أقدار الله.. خيرا بدت أم شرا.. ويحمد الله في كل حال.. حينها فقط.. سينطبق عليك كلام الله.. يا أيتها النفس المطمئنة.. حتى يقول.. وأدخلي جنتي.. ولاحظ هنا أنه لم يذكر للنفس المطمنئة لا حسابا ولا عذابا..) انتهى[1].

السابق
اللادينية.. شبهة الفصل بين الدين والأخلاق
التالي
اللادينية.. لماذا لا يتدخل الإله لرفع الظلم عن البشر؟