حينما يعود المرء بذاكرته إلى الوراء قليلاً، يدرك أن كثيرًا من الممارسات الشعبية التي التقطها من بيئته ـ إن في القرية وإن في المدينة ـ فيها شوائب مرفوضة ، وأخلاط من عادات ينكرها الإسلام ويحاربها، لأنها ضد العقل، وضد سنن الله الكونية، وضد نصوص الشريعة التي تحارب الخرافة وتقاوم الجاهلية.
ومن هذه السلوكيات موقف العامة من خسوف القمر وكسوف الشمس.. ولنبدأ من أول الطريق.
الخسوف والكسوف ؟
خسوف القمر Lunar Eclipse هو احتجاب سطح القمر أو جزء منه، عندما تكون الأرض بينه وبين الشمس، وقد يكون هذا الاحتجاب جزئيـًا أو كليـًا.
وأما الكسوف Solar Eclipse فهو احتجاب الشمس أو جزء منها حينما يقع القمر بينها وبين الأرض وقد يكون جزئيـًا أو حلقيـًا أو كليـًا ( معجم المصطلحات العلمية والفنية ص:204 ، 585 ).
وعلى هذا فهما سنة كونية، وظاهرة طبيعية، تحكمانهما قوانين وضوابط ، لا تحدثان بغيرهما .. هذا هو كلام العلم التجريبي ، وهو أيضـًا كلام الإسلام ، كما سنوضح بمشيئة الله تعالى .. فما رأي العقائد العامية في الكسوف والخسوف ؟
لقد شخص الفكر الأسطوري القديم القمر، وحاول أن يفسر تأثيره على الكون والطبيعة والحياة.
وإذا كانت الأسطورة في أصلها عقيدة وشعيرة فإنها تتحول بفضل التطور إلى عقائد ثانوية وطوائف من المراسيم والعادات والتقاليد ! ( د. عبد الحميد يونس، دفاع عن الفلكلور ص:92 ) .
وقد كان عرب الجاهلية الأولى يعتقدون أن القمر في ضائقة أو أسر ، فكانوا يضربون بالمعادن محدثين ضجيجـًا وجلبة ، ويقولون : يا رب خلـّصه (حسن الباش وزميله ص:29 ) .
كما كان بعضهم يعتقد أن الكسوف يمكن أن يحدث لموت عظيم ، حتى بدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفهم القاصر غير الصائب .
ويحاول عوض سعود عوض إيجاد بعد أسطوري موغل في القدم ـ مزينــًا فلسفته التي تحرص على رد كل شيء إلى أجداده الكنعانيين ـ فيقول : كان للماء أهمية خاصة في الحياة الشعبية ، إذ يعتقد العامة أن مجتمع المياه هو الأول ، وكان يضيئه الشمس والقمر ، وبعد صعودهما إلى السماء ظلت محاولة إعادتهما إلى العالم السفلي قائمة.( الماء في التراث الفلسطيني ، المأثورات الشعبية ع27/1992م ) .
إن محاولة رد الحياة إلى العدم هي المحاولة المستمرة التي تقوم بها القوى الشريرة المتمثلة في الحوتة التي تحاول التهام القمر عند كسوفه ، والتنين الذي يبتلع الشمس وقت كسوفها .
وهنا على الإنسان مناصرة الخلق عن طريق الأعمال التي تؤدي إلى بقاء الحياة وتجديد الخلق ، لأن الإنسان ـ بأعماله ـ يقرر مصير الكون ، لهذا كان من همه محاولة استعادة الزمن الأول وتكرار الأعمال التي تؤدي إلى ديمومة الخلق . ومن هذه الأفعال : الأفراح والأعياد والطقوس الدينية التي تنطلق من فكر ميثولوجي ” أسطوري “.
إقرأ أيضا:الجنُّ في المعتقد الشعبييعتقد العامة أن الحوتة تطارد القمر باستمرار ، وتقترب لحظة انتصارها فيما يسمى الخسوف ، فيتدخل الإنسان ليحسم الأمر ، فيلجأ الناس إلى إطلاق الرصاص ، وقرع الطبول والأواني لإخافة الحوتة وإعادتها إلى عالم المياه .
ويظل الاستنفار مستمرًا والناس خائفين حتى تتراجع الحوتة إلى عالم البحار ، فينتصر الخلق والحياة وروح الخير .. وينتهي الخسوف ، وعندئذٍ يخرج الناس يغنون ويدبكون احتفالاً باستمرار الحياة والوجود .. فيقولون لحظة الانتصار :
يا حوتة يا مكحوتة قمرنا أكل الحوتة
والحوتة راحت مكحوتةـ مطرودة ـ
أما عن الكسوف وعلاقته بالتنين الذي تستمر محاولاته للقضاء على الشمس، لكنها تبوء كلها بالفشل منذ الكنعانيين إلى يومنا هذا، فقد أوكل بعل ـ الإله الكنعاني ـ مهمة القضاء على طموح التنين في ابتلاع الشمس إلى كاشر وخاسس ، وهو ـ التنين ـ يحاول العودة بها إلى عالم المياه فيفشل كما فشلت الحوتة .. هذا في فلسطين.
أما في العراق فالأمر بيّنٌ في رهبة الناس من القمر وسؤالهم إياه ، وفي طقوسهم الشركية التي يمارسونها .
وإذا كانت الشعوب قد اجتمعت على أن هناك عفاريت أو كائنات غيبية أو حيوانات تحاول التقام القمر ، وإذا كانت هذه الأوهام تعيش في أذهان كثير من البسطاء في أنحاء العالم ، فإن أهل بغداد يعتقدون بابتلاع الحوت للقمر ، فتراهم يخرجون عند خسوفه ـ أو كسوفه ـ من بيوتهم فزعين ، فمنهم من يقيم الصلاة ، ومنهم من يُوَلْوِل ، وآخرون يصيحون وهم يضربون الطبول وقد شخصت أبصارهم نحو القمر هاتفين بالحوت تهديدًا له :
إقرأ أيضا:علم الغيب في الإسلاميا حوتة يا منحوتة هدّ قمرنا نريده ـ أي اتركيه لأننا نحتاجه ـ
وإن كان ما تهدينه أدق لـه بصينية :
هــدي قمــرنا الغالـي هو علينا غالـي ( التراث الشعبي ، ع :7/1975م ) .
وفي وصف الكسوف وعادات الناس فيه ، يقول عبد الحميد العلوجي (التراث الشعبي ، ع:5/1972، ص:44 ):
وعلى ضفاف دجلة ـ وفي الرحاب المشكوفة ـ وقفت الأمهات المرضعات والأزواج الحبالى باتجاه القمر ، بعضهنّ يمسك إما بخيوط قصار تتدلى منها كرات من الطين ، أو بخرزتين بيضاوين من الخرز المشهور باسم ” در نجف ” ، وكلا الفريقين يزعم أن الطين أو الخرز ينكر لونه الطبيعي في أثناء الخسوف ، ويميل إلى زرقة غامقة تنفع الجنين في الرحم، والرضيع في المهد والحضن ، وتقيه شر الكبسة ، أي المفاجأة الخطرة التي تدهم الوليد .
ولا ينتهي الكسوف والخسوف بهذه الضجة التي تحدث من جراء الأصوات المتنافرة ، والضرب على الطشوت والصحون ، وإنما كانوا يراقبون الألوان التي تصير ساعة الكسوف أو الخسوف ، فإذا كان اللون البارز أسوداً مثلاً لشدة الكسوف ضربوا يدًا بيدٍ وقالوا إن مرضـًا في طريقه إليهم وإن كان اللون أحمر قالوا إن الأحمر يدل على الدم ، فلا بد من أن حربـًا قادمة تسيل فيها الدماء كما يسيل الماء في دجلة والفرات !!
ومن عقائد العامة في العراق أيضـًا ، أن الحامل إذا مست بطنها عند خسوف القمر ولد الجنين ونصف وجهه أسود ـ كالقمر المخسوف !! ـ أما إن مستها عند كسوف الشمس فإنها تلد طفـلاً أحمر مزرقّ الوجه !
– وإذا ما زاد خسوف القمر على نصف وجهه وجب تلاوة صلوات خاصة ، لأن عدم فعل ذلك يؤدي إلى أن أفعى ستدخل قبر الشخص إذا مات ، زيادة في عذابه .
– وإذا احمر لون القمر عند خسوفه كان نذيرًا بأن حربـًا ستنشب .
– ولمقاومة السحر ، فإنهم يضعون طشتـًا به ماء ـ طيلة فترة خسوف القمر ـ مع قراءة أدعية خاصة ، معتقدين أن ذلك يجعل ماء الطست ” بطلة ” ناجعة في إبطال كل سحر إذا استحمت به المرأة المتزوجة( التراث الشعبي ع:12/1973 ، ص:31 وما بعدها ) .
وفي قطر ـ عند الخسوف ـ يدق النساء في الهاون ” المدق ” إلى أن ينجلي، معتقدات في حالتي الكسوف والخسوف أن الحوت أكل نصفه ، فيقمن بالضرب والغناء، هاتفات :
يا حــوتــه زوعــي ـ أي فيئي وردي القمر ـ(فاروق العادلي ، ص:202 ) .
وقد يتقي بعض الناس في المجتمع القطري المصائب التي تحل من خسوف القمر ، فيقول بعضهم عند الخسوف إن القمر قد ضل منزله أو إن الحوت التهمه .. وعلى حد تعبيرهم : ( تايه من منزله أو الحوت ماكله ) ويدقون الهاون حتى يرجع(الدويك :215 ).
وفي مناطق أخرى يزعمون أن عمر ـ رضي الله عنه ـ خنق القمر ويخرجون صائحين ليفكوه .
أما المصريون فمن عاداتهم ـ وشهدتها صغيرًا ـ إنه إذا حصل خسوف للقمر أو كسوف للشمس دق الأطفال والنساء على الصفيح والنحاس يصيحون صيحات مختلفة لاعتقادهم بأن ” الجن ” قد خنقوا القمر أو الشمس(أحمد أمين ، ص:410) .
وربما اعتقدت العامة أن بنات الحور يمسكن به ليمنعن النور عنا ، لذا كانوا يدقون الطبول منادين :
يا بنات الحــــور سيبوا القمـــر للنـــــــور (د. سامية الساعات ـ السحر والمجتمع ، ص :60 ) وبنات الحور من سواكن النيل في عقائد العامة وبالذات في النوبة وشمالي السودان ، وهن جنيات يتصفن بالجمال والفتنة ، ويعملن على إغواء من يقع بصرهن عليه لجذبه معهن إلى النيل ) .
فما رأي الدين ؟
من خلال السرد السابق يتضح لنا جنوح التصور العامي في فهمه لقضية الخسوف والكسوف ، وسقوطه في شرَك تقديس وتأليه ما لا يجوز تقديسه أو تأليهه ..
– فبعض النساء يتوهمن من القمر ـ حال الخسوف ـ أو الشمس ـ حال الكسوف ـ قوةً فيسألن نفعــًا أو يستجرن من ضر .
– وبعض الناس يتوهمون أن الحوتة تحاول خنق القمر أو التهامه .
– وبعضهم يعتقد أن التنين يخاتل الشمس ليبتلعها لتستحيل الدنيا ظلامـًا دامسـًا .
– وبعضهم يعتقد أن الجنَّة وبنات الحور يمسكون به ..
– وبعضهم يظن أن عمر ـ رضي الله عنه ـ يخنق القمر !!
وفي شكل الطقس العلاجي .. تجد من الناس من يطلق الرصاص ، ومن يصيح ويُوَلْوِن ، ومن يدق الهاون ،ومن يحدث ضجيجـًا بالآنية المعدنية ، ومنهم من يرقص ، ومنهم … وكلها سلوكيات تدور بين الجهل .. وبين الجاهلية .
فما موقف الإسلام من ذلك ؟
إنه من اللحظة الأولى يعلن أن الكسوف والخسوف سنتان كونيتان ، وظاهرتان تحدثان ـ بقدر الله ـ فيأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين بالدعاء والصلاة في إشارة إلى أن ما حدث من تغير في النظام الكوني ما هو إلا بسبب معاص ارتكبت من قبل العباد . فيجري الله هذه الآية حتى يتذكر العباد قدرة ربهم فيتوبوا إليه ويئوبوا له.
روى مسلم بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن الشمس كسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصادف ذلك يوم مات إبراهيم فلذة كبد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فسرى في الناس اعتقاد أن ذلك وقع لموته ـ عليه السلام ـ وكان هذا من عقائد الناس قبل الإسلام فقد سرى على ألسنة المنجمين أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم . والنبي صلى الله عليه وسلم حريص على سلامة عقائد الناس وفهومهم في قضية الربوبية والألوهية . لذلك فقد ارتفع عليه الصلاة والسلام فوق أحزانه على فقد ابنه ، وتسامى فوق جراحه ، وصعد المنبر بعد أن صلى بالناس قائلاً : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته .. فإذا رأيتموهما فكبروا ، وادعوا الله ، وصلوا ، وتصدقوا ) .
إنهما آيتان تسيران وفق سنن لا تنخرم لأن فلانـًا مات ، أو لأن علانـًا ولد له ، لذلك فإن انكسافهما لا يحتاج أكثر من تذكر خالقهما سبحانه وتعالى ، فهو ـ وحده ـ أهل التقديس وأهل التبجيل والتمجيد وحاشا الإسلام أن تكون به رائحة للوثنية ..
فإذا رأيتموهما فكبروا .. تذكروا أن الله أكبر من كل ما يجري في الكون، وادعوه سبحانه وصلُّوا له، وليس للقمر ولا للشمس : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهنّ إن كنتم إياه تعبدون }( فصلت: 37)، لأنهما مأموران مسخران ككل ما في هذا الكون : { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين }( إبراهيم:33 )، بل إنهما عبدان يسجدان لله ككل الكائنات:{ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس }(الحج: 18)، وهما زائلان محطمان يوم القيامة: { فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر }(القيامة:7ـ10) .
وما كان هذا حاله فلا يجدر بمكلفٍ أن يسجد له أو يدعوه أو يخافه أو يرقص ويغني له ، بل إن العبد المسلم لله رب العالمين ، يرى قدرة ربه سبحانه ، فإذا ما هاجت الريح ، أو عصف البحر ، أو اشتد الحر ، أو خسف القمر ، أو ادلهم الظلام ، لم يلجأ إلى الأشباح ولا إلى الأرواح ، ولا الجمادات يستغيث بها ويستأمن ، بل يهرع إلى رحاب ربه سبحانه ملاذ الخائفين ، ومعاذ المستعيذين ، ومجيب المضطرين : [ فكبروا ، وادعوا الله ، وصلوا ، وتصدقوا ] إنها طاعات كثيرة : مالية وقلبية وبدنية ولسانية ، فالإنسان كله لله رب العالمين .
فأين هذا ممن يعوذون بالحوتـة أو بنات الحور أو التنين .. ؟!
لا إله إلا الله .. وحده .. لا شريك له .