علماء اللغة

القلقشندي

ملخص المقال

    يتناول المقال حياة أبو العباس شهاب الدين القلقشندي أمير البيان والإنشاء صاحب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، فمن هو القلقشندي وما مؤلَّفاته؟

كان عصر المماليك من أزهى عصور الحضارة العربية الإسلامية في مصر، في مجالات الفكر والثقافة والفنون والآداب، وصلت الحياة الفكرية في مصر في القرنين الثامن والتاسع الهجريين إلى قمَّة نضجها وازدهارها، وعادت إلى البلاد أمجادها التي غابت عنها منذ عصور الحضارة المصرية القديمة، وكانت القاهرة وكبرى مدن الدلتا والصعيد مقصدًا لطلاب العلم والباحثين عن المعرفة، يفدون عليها من كلِّ أنحاء العالم الإسلامى؛ لينهلوا من علمائها ويدرسوا على أيديهم، وفى أواخر عصر دولة المماليك البحرية وأوائل عصر دولة المماليك الجراكسة -أى فى القرنين الثامن والتاسع الهجريين- عاش فى مصر مجموعةٌ من العلماء الأعلام.

وكان من بين هؤلاء الأعلام ثلاثة من أصحاب المؤلَّفات الفذَّة فى ذلك العصر، وهم: أحمد بن عبد الوهاب النويرى المتوفى سنة 732هـ، وأحمد بن فضل الله العمرى المتوفى سنة 749هـ، وأحمد بن على القلقشندى المتوفى سنة 821هـ. وعلى الرغم من تعدُّد مؤلَّفات الرجال الثلاثة فإنَّ لكلٍّ منهم كتابًا عمدةً من بين كتبه، ارتبط اسمه به وذاع صيته واشتهر بسببه، وهذه الكتب الثلاثة هي: “نهاية الأرب في فنون الأدب” للنويرى، و”مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العمري، و”صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي.

إقرأ أيضا:ابن القطاع الصقلي

وسوف نتوقف هنا عند عَلَمٍ من هؤلاء الثلاثة، وهو شهاب الدين أحمد بن علي القلقشندي، وموسوعاته الأدبيَّة والتاريخيَّة الراقية.

اسمه ونشأته

وُلِد القلقشندي في خمسينيَّات القرن الثامن الهجري (756هـ)، وتُوفِّي في عشرينيَّات القرن التاسع الهجري (821هـ)، فأدرك بذلك عصرين من عصور التاريخ المصرى؛ عصر دولة المماليك البحرية وعصر دولة المماليك الجراكسة، وبين مولد القلقشندى ووفاته عاش الرجل حياةً حافلةً غنيَّة، مكَّنت له من تأليف موسوعاته الأدبيَّة والتاريخيَّة الكبيرة.

هو القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن عبد الله الشهاب بن الجمال أبي اليمن الفزاري القلقشندي ثم القاهري الشافعي، الفقيه، المؤرِّخ، الأديب، البحَّاثة، المصنف. وُلِد في قلقشندة من قرى محافظة القليوبيَّة بقرب القاهرة (سمَّاها ياقوت قرقشندة)، وذلك سنة (756هـ=1355م).

والقلقشندي من أصل عربي صميم؛ يرجع نسبه إلى بني بدر بن فزارة من قيس عيلان، وكان بنو فزارة من تلك الأسرات التى هاجرت إلى مصر واستقرَّت بها ضمن عديدٍ من الهجرات العربية إلى مصر مع من وردها من العرب أيَّام الفتح الإسلامي وبعده، ونزلوا بإقليم القليوبيَّة.

وهو من دار علم، وفي أبنائه وأجداده علماء أجلَّاء، وقد درس القلقشندي بالقاهرة والإسكندرية على يد كبار علماء وشيوخ عصره، فنشأ في قريته حيث تلقَّى مبادئ العلوم وحفظ القرآن الكريم، قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية للتحصيل، فسمع الحديث الشريف على شيوخها وتفقَّه بهم، ودرس النحو والأدب على علمائها وأدبائها، فأُجيز بالإفتاء ورواية الحديث الشريف، وسمع على ابن الشيخة ومَنْ في وقته، وتخصَّص في الفقه الشافعي والأدب وعلوم اللغة والبلاغة.

إقرأ أيضا:ابن فارس

وظائفه

اشتغل القلقشندي بالتدريس والتأليف ثلاث عشرة سنة، وفي سنة 778هـ أجازه الشيخ ابن الملقن بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعي، فتصدَّى للإفتاء وهو في الحادية والعشرين من عمره، فأقبل عليه طلبة العلم يأخذون عنه الفقه وعلوم العربية ويسمعون منه الحديث الشريف، وقد برع القلقشندي في العربية نظمًا ونثرًا، وكتب في الإنشاء، وتولَّى بعض الوظائف الإداريَّة فى الدولة، وقد لفتت براعته فى الإنشاء نظر بعض رجال البلاط إليه، ومهَّدت له سبيل الاضطلاع بالمنصب الذي أهَّلته له مواهبه الأدبيَّة والفنِّيَّة، وهو العمل في ديوان الإنشاء، وقد كان للمقر الفتحي بن فضل الله العمري فضلٌ كبيرٌ على القلقشندي بهذا الصدد.

القلقشندي كاتب الإنشاء

رُشِّح القلقشندي للعمل في ديوان الإنشاء وكان من أهم دواوين الدولة في ذلك العصر، وترقَّى في العمل في الديوان ووصل فيه إلى أرفع المناصب، وقد بدأ عمله في ديوان الإنشاء في القاهرة سنة 791هـ في زمن السلطان الظاهر برقوق (784-801هـ)، وذلك حسبما يقول لنا القلقشندي نفسه في مقدِّمته لكتاب صبح الأعشى.

وقد كانت لديوان الإنشاء أهميَّةٌ خاصَّةٌ في هذا العصر، وكان على المرشَّح للعمل فيه أن يكون من أقطاب النثر والبلاغة، الذين تُؤهِّلهم معارفهم الواسعة للوقوف على شئون الحكم والسياسة الداخلية والخارجية، وسير العلاقات الدبلوماسيَّة بين مصر وباقي الأمم، كما كان على كاتب الإنشاء أن يتحلَّى بمجموعةٍ من الصفات اللازمة له: كصباحة الوجه، وفصاحة اللفظ، وطلاقة اللسان، وإيثارة الجد على الهزل، وتوقُّد الفهم وحسن الإصغاء، كما تطلَّبوا فيه كتمان السر؛ الأمر الذي يُصرُّ القلقشندي على خطورته، ويراه ضرورةً لا يُمكن التجاوز عنها فيمن يشغل وظيفة كاتب الإنشاء أو كاتب السر، فيقول عنها: “هذه الصفة هي الشرط اللازم والواجب المحتم”. ولديوان الإنشاء -منذ أيام الدولة العبيدية الفاطمية- تاريخٌ حافل، وقد كان لفترةٍ طويلةٍ من الزمن مدرسة أدبية يجتمع فيها أقطاب الكتابة وأئمَّة النثر والبلاغة.

إقرأ أيضا:الخليل بن أحمد الفراهيدي

وإذا كانت كتب التراجم لا تُقدِّم لنا شيئًا عن الفترة التي أمضاها القلقشندي في ديوان الإنشاء، وهي فترةٌ لا بد وأن تكون طويلة لكي يتسنَّى له أن يجمع في موسوعته تلك الكميَّة الكبيرة من المكاتبات والرسائل، وغير ذلك ممَّا لا نستطيع حصره في هذه السطور، فإنَّ كتاب صبح الأعشى يُزوِّدنا ببعض المعلومات القيِّمة نستطيع من خلالها الاهتداء إلى ما نبحث عنه؛ ففي الجزء التاسع يذكر القلقشندي أنَّه كتب رسالة تهنئة بكتابة السر الشريف بالديار المصرية في الدولة الظاهرية -برقوق في سلطنته الأولى- إلى المقر البدري محمود الكلستاني. والمعروف أنَّ بدر الدين محمود الكلستاني تولَّى كتابة السر بعد أن شغرت بوفاة بدر الدين محمد بن فضل الله في شوال سنة 801هـ.

وفي الجزء الرابع عشر يذكر أنَّه أنشأ رسالةً في تقريض المقر الفتحي، أبي المعالي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية في شهور سنة 814هـ. وفتح الدين فتح الله هذا تولَّى رئاسة ديوان الإنشاء مرَّتين، انتهت الثانية في شوال سنة 815هـ. وفي الجزء التاسع -أيضًا- يذكر أنَّه بعث بتهنئةٍ بالصوم للمقر الأشرفي الناصري محمد بن البارزي، كاتب السر الشريف، في سنة 816هـ. ومحمد بن البارزي تولَّى كتابة السر في 13 شوال سنة 815هـ، وظلَّ بها حتى وفاته في 8 شوال سنة 823هـ.

ممَّا تقدَّم نستطيع أن نستنتج أنَّ القلقشندي ظلَّ قائمًا بالعمل في ديوان الإنشاء حتى نهاية سنة 816هـ على أقلِّ تقدير، وربَّما حتى تاريخ وفاته سنة 821هـ؛ إذ ليس لدينا أيُّ نصٍّ ينفي ذلك أو يُؤيِّده، ويترتَّب على هذه الحقيقةِ حقيقةٌ أخرى؛ وهي أنَّ القلقشندي -وإن كان قد انتهى من تأليف كتابه “صبح الأعشى” في شوال سنة 814هـ- ظلَّ يُضيف إليه طوال السنوات الباقية من حياته، طالما كان لا يزال يعمل بديوان الإنشاء؛ ودليلنا على ذلك أنَّنا نجد العديد من صفحات كتابه فراغات من الواضح أنَّ المؤلف تركها عمدًا؛ ليملأها فيما بعد بما يستوفيه من المعلومات.

وإذا كان القلقشندي لم يستطع طوال فترة عمله أن يكون على رأس ديوان الإنشاء، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّه لم يكن يمتلك المؤهِّلات الأدبيَّة والعلميَّة لذلك؛ بل ربَّما كان يربأ بنفسه أن يسلك إليه سبل التزلف والرشوة، كما كان سائدًا في ذلك العصر.

وقد كان القلقشندي مع عمله في كتابة الإنشاء، كان يُؤلِّف ويفيد الطلبة ويُجيزهم، ويُباشر ديوان الأحباس وينوب في القضاء إلى أن تُوفِّي بالقاهرة رحمه الله.

قالوا عن القلقشندي

كان القلقشندي ملمًّا بعلومٍ كثيرة، متقنًا للفقه والحديث، بارعًا في علوم العربيَّة، عارفًا بالفرائض وعلم الرياضة والطبيعة، متبحِّرًا في التاريخ والجغرافيا، أديبًا كبيرًا شاعرًا ناثرًا، جامعًا لعدَّة الكتابة، مجيدًا لصناعتها، فاضلًا وقورًا متواضعًا صاحب مروءةٍ وخير، قال ابن حجر العسقلاني: “تفقَّه وتمهَّر وتعانى الأدب، وكتب في الإنشاء وناب في الحكم”. وقال شمس الدين السخاوي: “وكان أحد الفضلاء ممَّن برع في الفقه والأدب… وهو ممَّن قرض سيرة المؤيد لابن ناهض مع تواضع ومروءة وخير… برع في العربية، وعرف الفرائض، وشارك في الفقه، وسمع الحديث، ونظم ونثر”. وقال ابن العماد الحنبلي: “وكان مفضالًا، وقورًا في الدول إلى أن تُوفِّي”.

أسلوب القلقشندي في الكتابة وشخصيَّته الأدبيَّة

القلقشندي أديبٌ صانعٌ مجتهد، وهو صاحب قلمٍ سيَّالٍ يرتكز على ثقافةٍ واسعةٍ في جميع ميادين العلم والأدب والفن، وهو -أيضًا- ذو أسلوب مشرق الديباجة سلس المأخذ والعطاء، وفي كتابته ينسج القلقشندي على منوال أدباء عصره من أصحاب الأساليب المصنوعة، والعبارات المنمقة المسجوعة، الحافلة بالمحسِّنات البديعية من سجعٍ وجناسٍ وترصيعٍ وتضمينٍ وتوريةٍ ومقابلةٍ وطباق، إلى غير ذلك من أساليب الصنعة التي اعتمدها أصحاب “المدرسة الإنشائية الأسلوبيَّة”، التي كان على رأسها القاضي الفاضل.

ويتجلَّى أسلوب القلقشندي هذا في مقدِّمته، وفي الرسائل التي أنشأها في مناسباتٍ عديدة، وفي مقامته الطويلة التي أسماها “الكواكب الدرِّيَّة في المناقب البدريَّة”، وفي رسالته في المفاخرة بين العلوم، ونحن نُلاحظ أنَّ أسلوب القاضي الفاضل يملك على كاتبنا عقله ووجدانه؛ فقد تقمَّص القلقشندي شخصيَّة القاضي الفاضل، حتى إنَّنا لو لم نكن نعرف مسبقًا لِمَن هذا الأسلوب ما تردَّدنا لحظةً واحدةً في نسبته إلى القاضي الفاضل (وزير صلاح الدين الأيوبي، قيل عنه: كانت الدولة بأسرها تأتي إلى خدمته، تُوفِّي سنة 596هـ).

مؤلفات القلقشندي

لقد كان القلقشندي مؤلِّفًا نشيطًا، أثرى المكتبة العربية في مصر في عصره، وخلَّدته أعماله عبر القرون، فترك مؤلَّفاتٍ كثيرةً مهمَّة، أشهرها من الكتب: “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”، و”مآثر الإنافة في معالم الخلافة”، و”نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب” ألفه للمقر الجمالي يوسف الأموي، و”سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب”، و”قلائد الجمان في التعريف بقبائل الزمان”، و”ضوء الصبح المسفر وجنى الدوح المثمر” وهو مختصر لكتاب “صبح الأعشى”، وكلها مطبوع، و”حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم” مخطوط.

وله شروحٌ على كتبٍ سابقةٍ في الفقه وغيره، مثل كتاب “الغيوث الهوامع في شرح مختصرات الجوامع”، وهو شرح لجامع المختصرات في فروع الشافعية لكمال الدين النشائي، و”شرح كتاب الحاوي الصغير” في الفروع لنجم الدين القزويني، وكتاب “كنه المراد في شرح بانت سعاد”، وهو”شرح للامية كعب بن زهير” المشهورة.

وله -أيضًا- رسائل ديوانيَّة وإخوانيَّة وأدبيَّة وإجازات وتقاريظ كثيرة تبادلها مع علماء عصره وأدبائه، ونظم لبعض أصول الفقه و”مقامة الكواكب الدرية في المناقب البدرية”، التي أنشأها في مدح بدر الدين بن فضل الله العمري رئيس ديوان الإنشاء في أيَّامه، وضمنها التعريف بكتابة الإنشاء وبيان أهميَّتها وشرحها بكتابه الموسوعي “صبح الأعشى”.

كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا

كان عمل القلقشندى في ديوان الإنشاء وراء تأليفه لموسوعته الضخمة “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”؛ فقد أتاح له العمل في الديوان التعرُّف على كلِّ تفاصيل النظم السياسية والإدارية لسلطنة المماليك عن قرب، وقد استغرق تأليف هذا العمل الموسوعي عشر سنوات حتى أتمَّه.

ويبدو أنَّ تأليف القلقشندي لموسوعته كان بناءً على طلبٍ من أحد كبار المسئولين في الدولة وربَّما كان السلطان نفسه، وذلك بعد أن وضع مقامةً صغيرةً عن صناعة الإنشاء، حيث يقول القلقشندي في مقدِّمته لكتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا:

“وكان في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، عند استقراري في كتابة الإنشاء بالأبواب الشريفة السلطانية، عظم الله تعالى شأنها، ورفع قدرها، وأعزَّ سلطانها، أنشأت مقامة بنيتها على أنَّه لا بُدَّ للإنسان من حرفةٍ يتعلَّق بها، ومعيشةٍ يتمسَّك بسببها، وأنَّ الكتابة هي الصناعة التي لا يليق بطالب العلم من المكاسب سواها، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها، ونبهت إلى ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد، وما ينبغى أن يسلكه من الجواد، وضمنتها من أصول الصنعة ما أربت به على المطولات وزادت، وأودعتها من قوانين الكتابة ما استولت به على جميع مقاصدها أو كادت…”.

ويمضي القلقشندي في مقدِّمته قائلًا: “إلَّا إنَّها قد وقعت موقع الوحي والإشارة، ومالت إلى الإيجاز، فاكتفت بالتلويح عن واسع العبارة، فعزَّ بذلك مطلبها، وفات على المجتبي ببعد التساؤل أطيبها، فأشار من رأيه مقرون بالصواب، ومشورته عرية عن الارتياب، أن أتبعتها بمصنف مبسوط، يشتمل على أصولها وقواعدها، ويتكفَّل بحلِّ رموزها وذكر شواهدها، ليكون كالشرح عليها، والبيان لمـَّا أجملته، والتيمة لما لم يسقه الفكر إليها، فامتثلت أمره بالسمع والطاعة، ولم أتلكأ وإن لم أكن من أهل هذه الصناعة، فشرعت في ذلك بعد أن استخرت الله تعالى وما خاب من استخار، وراجعت أهل المشورة وما ندم من استشار”.

وعلى الرغم من أنَّ الهدف من تأليف القلقشندي لموسوعته “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” يبدو هدفًا تعليميًّا بحتًا؛ حيث قصد بها أن تكون كتابًا جامعًا للمعارف اللازمة لكتاب ديوان الإنشاء، فإنَّها جاءت عملًا موسوعيًّا فذًّا؛ فكتاب صبح الأعشى يجمع بين التاريخ، والجغرافيا، والنظم السياسية، ونظم الإدارة، والتنظيمات المالية والاقتصادية، فضلًا عمَّا فيه من موادٍّ ذات علاقةٍ وثيقةٍ بالأدب واللغة والخطوط، وقد قسَّم القلقشندي كتابه إلى عشر مقالات استوعبت عند طباعتها في أوائل القرن الماضي أربعة عشر مجلدًا من القطع المتوسط.

وقد جمع القلقشندي في كتابه كلَّ ما أتى به السابقون عليه من كتَّاب ديوان الإنشاء فى مؤلفاتهم عن الكتابة الديوانية منذ عهد البعثة النبوية حتى القرن التاسع الهجري، ولكنَّه أضاف على هذا الكثير من خبراته وابتكاراته، كما ضمَّن القلقشندي كتابه نصوص مئات من الوثائق التي صدرت في عصور الدولة الإسلامية المختلفة التي فُقدت أصولها، فحفظ لنا بذلك قسمًا كبيرًا من تاريخنا الضائع، كما عرفنا من خلال موسوعته تلك الكثيرَ من المعلومات عن العلاقات الخارجية لمصر وصلاتها بغيرها من الممالك الإسلامية، وصلاتها -أيضًا- بالدول الأوربيَّة.

منزلة الكتاب

ويُعدُّ كتابه “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” أهمَّ كتبه على الإطلاق لغزارة مادَّته وتنوُّعها، تناول فيه صنعة الكتابة وفضلها، وصفات كاتب الإنشاء ومؤهلاته، وأدوات الكتابة وتاريخ ديوان الإنشاء في البلدان العربية، وفنون الكتابة وأساليبها، وأوضح في الكتاب الجوانب السياسية والإدارية في مصر وبلاد الشام والدول المجاورة لها، وأحوال إدارة الدولة وما يعرض لها وأورد أمثلة إضافيَّة على هذا كله، وأثبت وثائق مهمَّة عن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإدارية والجغرافية في عصره فضلًا عن أهميَّته الأدبيَّة، مستوعبًا التراث العربي المتعلِّق بموضوع الكتاب وجميع الكتب والرسائل المؤلَّفة في هذا الباب، فجاء الكتاب موسوعة في فنِّ الكتابة للدولة وفنِّ الترسُّل وما يتعلَّق بهما، لذلك لاقى عنايةً فائقةً من الدارسين، فكثرت الدراسات التي تناولته، وتُرجمت بعض أجزائه إلى اللغات الأجنبية.

محتويات الكتاب

يتألَّف الكتاب من مقدِّمةٍ طويلةٍ وعشر مقالات، تحدَّث في المقدمة عن مدلول الكتابة وفضلها وبيان معنى الإنشاء، وتفضيل النثر على الشعر، وصفات كتَّاب الإنشاء وآدابهم، وحقيقة ديوان الإنشاء ومهامِّه وقوانينه.

ثم تناول في المقالة الأولى من الكتاب ثقافة كاتب الإنشاء، وما يحتاجه من معارف وأدوات متَّصلة بصناعة الكتابة كالخط والنحو والبلاغة، وإلمامٍ بعلوم الدين والتراث العربي ونظام الدول وألقاب أصحابها والعاملين فيها، وغير ذلك من العلوم المختلفة. وأوضح في المقالة الثانية المعارف التاريخية والجغرافية اللازمة لكتابة الإنشاء، فاستعرض المسالك والممالك وأورد معلومات جغرافية وتاريخية عن مصر منذ دخولها في الإسلام إلى أيامه، ثم بلاد الشام والدول التي لها علاقة بالدولة المملوكية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وشفع ذلك بمعلومات تاريخية عن الخلافة الإسلامية وأحوالها من أيام الخلفاء الراشدين إلى أيامه. وبيَّن في المقالة الثالثة ثقافة الكاتب الديوانية؛ فعرض قوانين ديوان الإنشاء وأنواع المكاتبات الصادرة عنه، وكنَّى أصحاب السيوف والأقلام والأعمال والخلفاء والملوك وألقابهم، وتحدَّث عن الورق المستخدم في الكتابة وأنواعه وأدوات الكتابة وصنوف الخطوط وطرائق الكتابة. وأوضح في المقالة الرابعة أصول تحرير المكاتبات الصادرة عن ملوك مصر وغيرهم، ومصطلحات الكتابة الديوانية والكتابة الإخوانية. وخصَّص المقالة الخامسة للولايات ووظائف الدولة الكبرى، وأورد أمثلةً كثيرةً من البيعات والعهود والتقاليد والمراسيم والتفاويض والتواقيع. وجعل المقالة السادسة في أنواعٍ مختلفةٍ من الكتب الديوانية، كالوصايا والإطلاقات والمراسيم والإقطاعات والأيمان وعقود الصلح والأمانات والمهادنات، وأضاف إليها شيئًا من التقاليد والتقاريظ والإجازات والمفاخرات والرسائل والمقامات, وألحق بها حديثًا عن البريد وشئون المواصلات والاتصالات بين مصر والبلدان الإسلامية. وأورد في المقالة السابعة كتب الإقطاع والقطائع، وقصر المقالة الثامنة على كتب الأيمان. والمقالة التاسعة على كتب الأمان والعقود. وعرض في المقالة العاشرة رسائل أدبية مختلفة؛ إخوانية وتأليفية.

أسلوب القلقشندي

ويختلف أسلوب القلقشندي بين إنشاء الرسائل وعرض مادة الكتاب؛ فحين يعرض مادَّة كتبه ويُعقِّب ويشرح، يكون أسلوبه حرًّا متدفِّقًا خاليًا من الصنعة البديعيَّة، وحين يُنشئ رسائل ديوانيَّة أو أدبيَّة يستخدم فنون البديع في كتابته، فيُكثر من الطباق والتورية والمحسِّنات اللفظية والمعنوية، لكنَّه لا يُكثر من التقطيع والموازنة، ويُغيِّر السجعة بين كلِّ عبارتين.

وقد طوَّع هذه الطريقة في الكتابة للوصول إلى مراده ولأداء مقاصده من غير ثقلٍ أو استكراه، على الرغم من استخدامه ثقافته في إنشائه، فيأخذ من التراث ما يُعينه على بناء معانيه وصياغة عباراته، فقد كان عارفًا بأساليب الكتابة وفنونها، يضع كلَّ أسلوبٍ في موضعه.

كتاب مآثر الإنافة في معالم الخلافة

وهو كتابٌ في أنواع العهود والعقود والمخاطبات إلى جانب ترتيب الخلافة وتاريخها، وطبقات الخلفاء والولاة، مع ذكر الحوادث والماجريات. وقد ألَّفه للخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله، وهو أحد خلفاء بني العباس في مصر، على ما جاء في مقدمه الكتاب بقلم المؤلف عند حديثه عن تقسيمات الكتاب فقال: “الخاتمة في ذكر طرف من مناقب الإمام الأعظم المعتضد بالله خليفة العصر الموضوع له هذا الكتاب”.

قراءة هذا الكتاب في عصره تُكرِّس شرعيَّة الخلافة العباسية، لكن إعادة قراءته بروح عصرنا تُبيِّن إلى أيِّ مدى صارت الخلافة نفوذًا روحيًّا ليس إلَّا، فليس للخليفة من السلطة سوى الخطبة على منبر مسجد قلعة صلاح الدين في القاهرة، وإصدار التقاليد للحكَّام، وحضور بعض المجالس، كان خلفاء هذا العصر ليس لهم سوى إضفاء طابعٍ من الشرعيَّة على سلاطين المماليك، صورةٌ تكمل بها واجهة الحكم لإرضاء العامَّة، القلقشندي قد أدرك ذلك حين تحدَّث عن إمارة الاستيلاء، فيقول: “إمارة الاستيلاء، وهي التي تنعقد على اضطرارٍ بأن يستولي الأمير بالقوَّة على بلاد يُقلِّده الخليفة إمارتها، ويُفوِّض إليه تدابيرها، فيكون باستيلائه مستبدًّا بالتدابير والسياسة، والخليفة بإذنه في الأمور منفِّذًا لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحَّة”.

بسقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656هـ، سقطت الدولة العباسية الثانية التي سيطر فيها الوزراء على الحكم وصار الخلفاء ألعوبة بيدهم، ولولا شرعيَّة السلطة لأنهى هؤلاء الوزراء هذه الخلافة، لكن مع صعود المماليك لحكم مصر سعى الظاهر بيبرس لإحياء الخلافة العباسية في مصر، لكنَّها كانت خلافة شكليَّة، لا يملك الخليفة من الأمور سوى ما يُضفي على السلطة طابعًا دينيًّا يُكمل الصورة ويُرضي عامَّة الناس، كانت هناك وجهة نظر أولى لدى الظاهر بيبرس؛ هي أن يكون إحياء الخلافة بأن يُساعد الخليفة على استعادة بغداد، وهو ما دفعه إلى أن يُجهِّزه بجيشٍ لهذا الغرض، غير أنَّ هذه المحاولة فشلت، وأُعيدت مبايعة خليفة آخر، هو أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أحمد المقدم، وهذا اللقب منقولٌ إليه عن المستكفي بالله الخليفة الـ23 من خلفاء بني العباس في العراق.

كان الخليفة العباسي يخطب الجمعة في المسجد الجامع في القلعة مقر الحكم في مصر، لكن مع تولِّي السلطان الناصر محمد بن قلاوون للمرة الثانية، نُفي الخليفة إلى قوص في صعيد مصر، حتى إنَّه خُلع ليس من قِبَلِ السلطان؛ بل من قِبَلِ أتابك العسكر كما حدث مع الخليفة المتوكل على الله أبو عبد الله محمد؛ حيث خلع في سنة 763هـ في عهد السلطان المملوكي المنصور علي، وقام أتابك العسكر أيبك باختيار المستعصم بالله إبراهيم بن المستكفي ليكون خليفةً من دون حضور أهل الحل والعقد، وبعد ثلاثة أشهر خلعه السلطان الظاهر برقوق وسجنه في برج القلعة، وهكذا كان خلفاء بني العباس في مصر ألعوبةً في يد السلاطين وأمراء المماليك.

وهذا الكتاب من الكتب النادرة التي حُقِّقت ونُشرت في وقتٍ متأخر (نشرته دولة الكويت ضمن سلسلة التراث العربي). ويبدو أنَّه كان آخر ما ألَّفه القلقشندي، وقد خفي اسمه على المحدثين، يقول القلقشندي في الجزء الثاني من “مآثر الإنافة”: “إلى حين تأليف هذا الكتاب في مباديء سنة تسع عشرة وثمان مائة (819هـ)”.

وفاة القلقشندي

وبعد حياة وافرة عامرة في الفقه والأدب والتاريخ والأنساب، تُوفِّي القاضي شهاب الدين أبو العباس القلقشندي في يوم السبت عاشر جمادى الآخرة سنة (821هـ=1418م)، وله خمسٌ وستون سنة.

_______________

المصادر والمراجع:

– القلقشندي: الكتاب: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، 1987م.

– القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، الناشر: مطبعة حكومة الكويت – الكويت، الطبعة: الثانية، 1985م.

– ابن حجر: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: حسن حبشي، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، 1389هـ=1969م.

– السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت، د.ت.

– ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناءوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ=1986م.

– الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو، 2002 م.

– محمود سالم محمد: القلقندي، الموسوعة العربية العالمية.

– خالد عزب: القلقشندي وكتابه “مآثر الإنافة في معالم الخلافة”، جريدة الحياة اللندنية، السبت، ٦ سبتمبر ٢٠١٤م.

السابق
الفيروزآبادي
التالي
ابن منظور