المنهيات الشرعية

القذف

القذف لغة

مصدر قولهم: قذف يقذف إذا رمى بالشيء، وهو مأخوذ من مادة (ق ذ ف) التي تدل على الرمي والطرح، ومن ذلك قذف بالشيء يقذفه إذا رمى به، وبلدة قذوف أي طروح لبعدها تترامى بالسفر، ومنزل قذف وقذيف أي بعيد، والقذيفة: الشيء يرمى به، والقذف بالحجارة، الرمي بها، يقال: هم بين حاذف وقاذف، فالحاذف بالعصا والقاذف بالحجارة، والتقاذف: سرعة ركض الفرس، وفرس متقاذف:

سريع العدو، وأما ما جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها- «وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث» أي تشاتمت في أشعارها التي قالتها في تلك الحرب» .

وقال ابن منظور: يقال: قذف بالشيء يقذف قذفا فانقذف: رمى. والتقاذف: الترامي، والقذف الرمي بقوة. قال الليث: القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام وكل شيء.

وقذف المحصنة أي سبها ورماها بزنية. وفي حديث هلال بن أمية: أنه قذف امرأته بشريك. القذف هاهنا رمي المرأة بالزنا، أو ما كان في معناه، وأصله الرمي ثم استعمل في هذا المعني حتى غلب عليه.

وفي الحديث: إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أي يلقي ويوقع «1» .

واصطلاحا

قال البغوي: القذف: الرمي بالزنا وكل من رمى محصنا أو محصنة بالزنا فقال له: زنيت أو يازاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة إن كان حرا.

إقرأ أيضا:الغلو

وإن كان عبدا فيجلد أربعين. وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير، وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا «2» .

وقال الكفوي: القذف: يقال للإلقاء والوضع، ويستعار للشتم والعيب والرمي البعيد «3» .

قال المناوي: القذف: الرمي البعيد، واستعير للشتم والعيب، كما استعير للرمي (مطلقا) «4» .

حكم القذف

عد ابن حجر من الكبائر قذف المحصن أو المحصنة بزنا أو لواط أو السكوت على ذلك، وقال:

أجمع العلماء على أن المراد من الرمي في الآية الكريمة:

إن الذين يرمون المحصنات الغافلات.. هو الرمي بالزنا وهو يشمل الرمي باللواط كقوله: يا زانية، أو بغية، أو قحبة، لها أو لزوجها كقوله: يا زوج القحبة، أو لولدها كياولد القحبة.. ثم قال: عد القذف كبيرة هو ما اتفقوا عليه، لما نصت عليه الآيات عن لعن فاعله في الدنيا والآخرة وهذا من أقبح الوعيد وأشده «1» .

[للاستزادة: انظر صفات: الإساءة- الأذى- الإفك- البهتان- سوء الظن- شهادة الزور- الكذب- الفضح- إفشاء السر- الافتراء- الزنا- البذاءة- الفحش.

وفي ضد ذلك: انظر صفات: تكريم الإنسان حسن الظن- الصدق- كتمان السر- إقامة الشهادة- الكلم الطيب- الأدب- الصمت وحفظ اللسان- الإحسان- الصبر والمصابرة- كظم الغيظ] .

إقرأ أيضا:الوسوسة

الآيات الواردة في «القذف»

1- والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5) والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9) «1»

2- إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25) «2»

الأحاديث الواردة في ذم (القذف)

1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟ «1» » قالوا:

المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته.

إقرأ أيضا:سوء الظن

فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار» ) * «2» .

2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» . قيل:

يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم.

وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات «3» » ) * «4» .

3-* (عن عبد الله «5» – رضي الله عنه- «أن رجلا من الأنصار قذف امرأته فأحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم. ثم فرق بينهما» ) * «6» .

4-* (عن صفوان بن عسال- رضي الله عنه- أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله فقال: لا تقل نبي؛ فإنه إن سمعها تقول نبي كانت له أربعة أعين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله- عز وجل- ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، شك شعبة: وعليكم يا معشر اليهود خاصة لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه وقالا:

نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تسلما؟» قالا: إن داود دعا الله، أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود) * «7» .

5-* (عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلكقريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، …

فيه: قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه- وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله- سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فرقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك- كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث. وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي:

فاقرأه علي. فقرأ عليه صدرا من كهيعص، فقالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا. فو الله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد، … الحديث» ) * «1» .

6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: من قذف مملوكه وهو بريء مما قال «1» جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال» ) * «2» .

الأحاديث الواردة في ذم (القذف) معنى

7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام أسود. فقال: «هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «ما ألوانها؟» قال: حمر. قال: «هل فيها من أورق؟» قال:

نعم. قال: «فأنى ذلك؟» قال: لعل نزعه عرق. قال:

«فلعل ابنك هذا نزعه» ) * «3» .

8-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- «أن رجلا رمى امرأته فانتفى من ولدها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين» ) * «4» .

9-* (عن أنس- رضي الله عنه- أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «اذهب فاضرب عنقه» فأتاه علي فإذا هو في ركي «5» يتبرد فيها. فقال له علي: اخرج. فناوله يده فأخرجه. فإذا هو مجبوب ليس له ذكر. فكف علي عنه.

ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنه لمجبوب. ما له ذكر» ) * «6» .

10-* (عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم ابن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاوجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر. فقال:

يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال: عويمر والله لا أنتهى حتى أسأله عنها. فأقبل عويمر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه.

أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها. قال سهل:

فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب:

فكانت سنة المتلاعنين» ) * «1» .

11-* (عن سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب. أيفرق بينهما؟ قال: فما دريت ما أقول: فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة.

فقلت للغلام: استأذن لي. قال: إنه قائل «2» .

فسمع صوتي. قال ابن جبير؟ قلت: نعم. قال: ادخل.

فو الله! ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة. فدخلت.

فإذا هو مفترش برذعة. متوسد وسادة حشوها ليف.

قلت: أبا عبد الرحمن، المتلاعنان. أيفرق بينهما؟ قال:

سبحان الله! نعم. إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال:

فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه. فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله- عز وجل- هؤلاء الآيات في سورة النور: والذين يرمون أزواجهم (24/ النور/ 6- 9) فتلاهن عليه ووعظه وذكره.

وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا. والذي بعثك بالحق! ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قالت: لا.

والذي بعثك بالحق! إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.

والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ثم فرق بينهما» ) * «3» .

12-* (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه. فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي. فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلمبعدما نزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه.

فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل. فمشيت حتى جاوزت الجيش.

فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي.

فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا. لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا.

فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي.

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي. فرأى سواد إنسان نائم. فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني.

فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. حتى أناخ راحلته.

فوطىء على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول.

فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى.

إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟» ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع- وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف.

وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة- فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقلت لها:

بئس ما قلت. أتسبين رجلا شهد بدرا؟. قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم- تعني سلم- ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت:

أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قالت: فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ ليدمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد- رضي الله عنهما- حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله.

قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا.

وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة. لا.

والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر- «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا.

وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد: كذبت لعمر الله.

لا تقتله، ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر- فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. قالت:

فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسلم ثم جلس. قالت:

ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد.

يا عائشة: فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلي الله تاب الله عليه» قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال.

قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فقلت- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف. قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.

قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه.

قالت: فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: «يا عائشة، أما الله- عز وجل- فقد برأك» فقالت أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله- عز وجل- وأنزل الله إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم … العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق علي مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال.

فأنزل الله ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي.

فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: «يا زينب، ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت:

يا رسول الله أحمي سمعي وبصري. ما علمت إلا خيرا.

قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك) * «1» .

13-* (عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لما نزلت والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه؛ فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته.

فقال سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا «2» تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه «3» ، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء! فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.

قالوا: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال ابن أمية. وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، واجتمعت الأنصار فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا. فقال هلال: يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق.

والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي- وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد «1» جلده- يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم … الآية فسري «2» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبشر يا هلال؛ فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من ربي- عز وجل- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاء ت، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. فقال هلال:

والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت: كذب.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عنوا بينهما» فقيل لهلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كان في الخامسة قيل: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب.

فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.

ثم قيل لها اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب.

فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى هي به، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها.

وقال: إن جاءت به أصيهب «3» أريسح «4» حمش «5» الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق «6» جعدا «7» جماليا «8» خدلج «9» الساقين سابغ الإليتين فهو للذي رميت به» فجاءت به أورق جعدا جمالياخدلج الساقين سابغ الأليتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرا على مصر وكان يدعى لأمه، وما يدعى لأبيه» «1» .

من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذم (القذف)

1- عن عمرة بنت عبد الرحمن- رحمها الله- قالت: إن رجلين استبا «2» في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب.

فقائل يقول: مدح أباه وأمه، وآخر يقول: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا- فجلده عمر الحد ثمانين» «3» .

2- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في ولد الملاعنة: هو الذي لا أب له، ترثه أمه، وإخوته من أمه، وعصبة أمه، فإن قذفه قاذف جلد قاذفه» «4» .

3- قال أبو الزناد- رحمه الله-: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية ثمانين، قال أبو الزناد:

فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال:

أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء، هلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين» «5» .

4- «قال ابن كثير في قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات … : هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات» «6» .

5- «وقال أيضا: وهي عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنة من فعل ذلك في الدنيا والآخرة» «7» .

من مضار (القذف)

(1) يمقت الله القذف ويعد فاعله فاسقا ملعونا في الدنيا والآخرة.

(2) القذف قد يكون فيه انتهاك لعرض مسلم أو مسلمة.

(3) عادة سائدة في المجتمعات الساقطة يقع فيها السذج والأطفال.

(4) يسبب العداوة والبغضاء بين الناس.

(5) هو من علامات الإفلاس الخلقي والخواء الديني ومن الموبقات التي توبق صاحبها في النار

السابق
القدوة السيئة
التالي
الفتنة