شكوك وإجابات

الغيب.. إيمان بما لا نشعر وتصديق بما لم نجرب.. كيف؟

ينكر بعض المتشككين الإيمان بأمور الغيب التي أخبر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – بها؛ بحجة أنها لا تدخل تحت علومهم التي تخضع للإدراكات الحسية أو التجارب، ويقولون: لا نؤمن إلا بما أدركته حواسنا واستساغته عقولنا.

التفصيل:

أولا. دليل لا يقبله عقل:

العلم والغيب

ينكر البعض أمور الغيب مستندا إلى أن هذه الأمور لا تخضع للإدراك الحسي.

تجدر الإشارة في بداية الرد على الشبهة التي نحن بصدد الحديث عن دفعها – إلى أن مثيريها استندو في إثارتها إلى دليل لا يقبله العقل ولا الواقع المعيش؛ وذلك أنهم أنكروا أمور الغيب التي أخبرنا بها الله – عز وجل – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – جميعها، مستندين إلى أن هذه الأمور الغيبية لا تخضع لإدراكهم الحسي، ذاهبين إلى أن عقولهم لا تستسيغ الإيمان بشيء لا يدرك بالحواس.

إن العقل الذي احتكم إليه هؤلاء لا يقبل بحال الاستناد إلى ما استندوا إليه من كون الإيمان بوجود الشيء فرع عن إدراك ذلك الشيء إدراكا حسيا؛ وذلك أن عدم إدراك الشيء لا ينفي وجوده، فكم من أشياء في واقعنا المعيش لا نراها، ومع ذلك فلا يصح لعاقل أن ينفي وجودها.

إقرأ أيضا:من أين أتى الكون ؟

فهذه الكهرباء التي تسري في أسلاك، فهل رأيتموها أو سمعتم صوتها؟! ثم هل بإمكانكم أن تنفوا وجودها لعدم رؤيتها؟!

وهذا الهواء الذي منحنا الله إياه، ولا حياة لكائن إذا افتقده، هل شاهدتموه أو سمعتم صوته؟! وهل يتنسى لكم ألا تعترفوا بوجوده؟!

إن إنكار هؤلاء الماديين الحسيين الغيبيات – أمر بدهي لا يدعو إلى العجب؛ وذلك أنهم لم يؤمنوا بداية بالله – عز وجل – الذي أمرنا أن نؤمن بالغيب، وجعل الإيمان به أول صفة من صفات المتقين، يقول سبحانه وتعالى: “الم. ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (البقرة:3-1).

ثانيا. الغيب.. ضرورات الإيمان به و أدلته:

إن للإيمان بالغيب – الذي أنكره من أثار هذه الشبهة – ضرورات وأدلة  تؤكد وجوده ويفصل الدكتور/ حبيب الله حسن[1] الحديث عن هذه الضرورات فيقول:

1- الغيب الذي لا يدرك بالحس ضرورة عقلية:

إذا أعمل العاقل عقله، وجد نفسه أمام اعتراف بالغيب لا محالة، فهو ليس لديه من الحجج ما يبرهن على عدم وجوده، والقول: إن عدم إدراك الحواس للغيبيات دليل على عدم ثبوتها حجة ساقطة، بل إنها قضية تحمل في طياتها دليل كذبها، فلتسأل كل حاسة نفسها، وليسأل كل ذي حاسة نفسه: هل هذه الحاسة تدرك كل شيء؟ هل ترى العين كل المرئيات؟ هل تسمع الأذن كل الأصوات؟ بل إن الحاسة الواحدة تختلف فيما تدركه من شخص لآخر، فقد يرى بعينه ما لا يراه الآخر، ويختلف إدراك الحاسة من كائن إلى آخر، فحاسة البصر عند بعض الحيوانات أقوى منها عند حيوانات أخرى، وكذلك حاسة السمع، والشم… إلخ.

إقرأ أيضا:على طريق الإلحاد.. هل تنتحر الفضيلة؟

فإذا أنكر كل من لم يدرك شيئا وجود هذا الشيء؛ بناء على عدم إدراكه، فماذا تكون النتيجة؟ ستكون النتيجة النهائية أنه لن يثبت شيء بالمرة، فالكل ينكر ما أثبته الآخر، وهكذا فلا يثبت شيء أبدا.

إن عدم إدراكنا لأي موجود لا يدل على أنه غير موجود إطلاقا، وإنما يدل فقط على أننا لم ندركه، ومن هنا قال العقلاء: “عدم الإدراك لا يدل على عدم الوجود”، فإذا افترضنا أسوأ الفروض، وقلنا: إن العقل لم يثبت الغيب، فليس من حقه أن ينفيه، فإذا ثبت من طريق آخر فقد دخل من باب غير بابه، وثبت بطريق غير طريقه.

ما الذي يراه الإنسان من جسده؟ لا يرى منه إلا شكله الخارجي، فهل ينكر أعضاءه، وأجهزته الداخلية؟ بالطبع لا، إنه يثبتها، على الرغم من عدم رؤيته لها، ولم يثبتها فقط، بل إنه إذا قارن بينها وبين ما رآه من شكله الخارجي، لوجد أن ما لم يره من أعضائه وأجهزته أكثر أهمية مما رآه، بل هو قوام جسده، وقوام حياته، فإذا انتقل إلى روحه أيا كان تفسير المفسرين لها، فهل يراها، أو يدرك آثارها؟ وهكذا كلما غاب الشيء عن الحس كان بالوجود أولى، وللوجود سببا.

2-  الغيب ضرورة حيوية:

إننا – بني البشر- نتعامل مع الغيب، وعلى أساس من الغيب، سواء أشعرنا بذلك أم لم نشعر، أنكرنا الغيب أم اعترفنا به، ألا ترى إلى الواحد منا يضحي بنفع عاجل حاضر محقق مقابل نفع آجل مرجو غائب عنه، غير محقق، بل مظنون متوقع.

إقرأ أيضا:هل الإيمان باليوم الآخر يؤثر على سلوك الإنسان؟

انظر إلى الزارع، ينثر الحب في الأرض، يجهد نفسه، يستأجر العمال، يحرث، يغرس.. لماذا حرم نفسه من هذا الذي بذله؟ هل هو سفيه؟ كلا، إنه يضحي بعاجل قليل مقابل آجل أكثر، أين هذا الآجل؟ إنه غيب، وهكذا كل إنسان في موقعه، الطالب في دراسته، التاجر في تجارته، الصانع في صناعته… إلخ، كل إنسان في مسعاه يضحي بما في يده من عاجل حاضر من عالم الشهادة؛ انتظارا لآجل أفضل منه في عالم الغيب، فإذا جاء الدين، وقال للإنسان: ما رأيك إذا ادخرت لك آجلا في عالم الغيب “وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ” (الأعلى:17) من كل عاجل في حياتك؟ وكل ماهو مطلوب منك أن تضحي ببعض المتع العاجلة، وتضبط حياتك على مثال ما شرع لك ربك، وفي ذلك خير لعاجلتك أيضا، أيكون الدين بذلك قد خرج عن الخطة التي يعمل بمقتضاها الإنسان لنفسه، ويشكل على أساسها حياته؟ كلا، إنه عامله بالمنطق الذي يتعامل به، وأكثر من ذلك، إنه يلبي في نفس الإنسان رغبة جامحة، وطموحات ملتهبة، لا تطفئها هذه الدنيا بحذافيرها.

إن الإنسان مفطور على حب الخلود، إنه يود لو يعمر ألف سنة، ولو خُيِّر لاختار أكثر، إنه مفطور على حب الأفضل والأبقى في كل شيء في حياته، وفيما تملك يداه، إن الإنسان عالم من الطموحات والتطلعات لا تلبيها هذه الدنيا، كما شخص الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم – نفسية الإنسان أصدق تشخيص قائلا: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) أخرجه البخاري. وغريزة حب البقاء والخلود، والتطلع إلى الأفضل كغيرها من الغرائز، ما خلقت عبثا، ولا وجدت باطلا، وهي تلبى كما تلبى بقية الغرائز.

فإذا كانت هذه الدنيا بحذافيرها لا تلبى حاجة الإنسان، ولا تطفئ نهمه، فإن ما بعدها من نعيم الآخرة كفيل بأن يلبي هذه الغرائز، كما أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أخرجه البخاري.

3-   الغيب ضرورة إنسانية:

وأعني بوصف “إنسانية” الجانب الإنساني في الإنسان من مكارم الأخلاق، ونبل الصفات، فكيف يكون الغيب ضرورة إنسانية؟

إن من يحترم إنسانيته ويعتمد عليها في مهمات الأمور هو من يتعامل مع الغيب كما يتعامل مع المشاهدة، أما إذا كان لا يحسب حسابا إلا للمشاهد فقط، فإذا ما اختفى هذا المشاهد من أمام عينيه فإنه سرعان ما ينكص على عقبيه، فإن أقل وصف يمكن أن يوصف به هذا المرء “عدم احترامه لإنسانيته”، ولنضرب على ما نقول مثلا فنقول: لو كان عندك اثنان من الأبناء: أحدهما – وهو الأصغر سنا – يحسب لك حسابا في غيبتك كما يحسب لك حسابا في حضورك، برا وتقديرا، والآخر – وإن كان الأكبر- لا يطيعك إلا وأنت حاضر أمام عينيه، بل لا يطيعك إلا تحت وسائل الزجر والتهديد، فإذا أردت أن تسافر خارج البلاد، وأردت أن تسند بعض شئون الأسرة وتبعاتها إلى أحدهما، فبمن تثق؟ وعلى من تعتمد في مهام الأمور المهمة؟

فالذي يعمل للشهادة فقط، للحظته الحاضرة، أشبه بالحيوان الذي لا هم له إلا إشباع شهواته الحاضرة، لكن الإنسان يتميز عن الحيوان بالتفكير في العواقب، وكلما امتد نظره إلى العقبى أكثر وأكثر شعر بإنسانيته أكثر وأكثر، وكذلك تقوم حياة البشرية، وتحدد مصائر الأمم والشعوب على أكتاف نماذج من البشر، شعروا بإنسانيتهم، وتعاملوا مع منطق الغيب، لا مع منطق الشهادة، هؤلاء الذين سقطوا في ميادين الجهاد، وضحوا بأغلى ما عندهم، وهي حياتهم، لو ركنوا إلى الشهادة لما بذلوا النفس والنفيس، لكن ذلك كله هون عليهم ابتغاء ما هو أغلى وأبقى، ولو ركنوا إلى المشاهد المعيش لما قام دين، ولا قامت دنيا.

4-   الغيب ضرورة عملية:

إن منطق الإلحاد الذي ينكر الغيب لو طُبق لتعطلت مسيرة العلم، كما تتعطل مسيرة الدين، فالعلم دائما يبحث عن مجهول مفترض وجوده، فلو سار العلم مع منطق الإلحاد، في كون ما لا يدرك لا وجود له، لما كان هناك جدوى للبحث، ولتوقف العلم؛ فواقع العلم والعلماء الاعتراف بالغيب، وإن جحد الجاحد ذلك بلسانه.

ونعود فنقول لمن يجادل فيما جاء به القرآن والسنة من أمور غيبية، ويزعم عدم وجودها، نقول له: دونك هذه الأمثلة التي ربما صادفتك في أمور حياتك، أو قد تصادفها يوما ما:

* قال لك الطبيب – وقد تأمل في كأس الماء التي في يدك لتشربها: إن هذا الماء ملوث، وإن شربته عرض حياتك لخطر مؤكد؛ قال لك هذا الكلام، وأنت لا تعلم شيئا عن الطب، وعناصر الأشياء، وطبائعها، وكل ما تعلمه أن الذي يقول لك هذا الكلام طبيب حاذق صادق.

* بلغك أن علماء الأرصاد والفلك في العالم، أخبروا عن خسوف يظهر على سطح القمر في ليلة معينة، بعد أيام معدودة، وبحثت، فأيقنت أن الخبر ليس شائعة مجردة، بل هو خبر رسمي منقول بطريق يقيني عن المصادر المختصة.

  * سمعت من مصادر رسمية موثوق بها أن المسئولين في مؤسسة الكهرباء سيقطعون التيار الكهربائي في ساعة معينة من ليلة معينة.

*** لا شك أنك ستستيقن في المثال الأول خطورة شرب ذلك الماء، وتمتنع عن أن تَطعم شيئا منه، وتستيقن في المثال الثاني حدوث الخسوف في الوقت الذي عينه أرباب الاختصاص، كما تستيقن في المثال الثالث أن تيار الإضاءة الكهربائية سينقطع في الوقت المعين المذكور، وتأخذ الأهبة لذلك. فلماذا تستيقن هذه الأمور، وما البرهان العلمي الذي أخضع عقلك لتصديقه؟

والجواب: أن عقلك اضطر إلى تصديق ذلك بدافع برهانين اثنين:

أولهما: يقينك بأن الطبيب حاذق وصادق، وبأن الطب حقيقة ثابتة، ويقينك بأن علماء الأرصاد والفلك، لا يفوتهم معرفة ما قد يحدث من تقلبات الجو، وأمر الخسوف والكسوف، إن هم دققوا النظر واطلعوا على ما هو مطرد من سنن الكون ونظامه الذي أقامه الله عز وجل، ويقينك بأن تنظيم الإضاءة في البلد المعين منوط بمؤسسة معينة عهد إليها بكل شئونها.

الآخر: يقينك بأن ما بلغك من كلام الطبيب، وعلماء الأرصاد، والفلك، وبلاغ المؤسسة الكهربائية – خبر يقيني تولت نقله إليك جهة رسمية، على نحو لا يحتمل التأويل والكذب.

 فثبوت البرهان الأول، ثم إثبات البرهان الثاني يترتب عليه لا محالة تيقن تلك الأخبار الثلاثة، وإن لم يكن مضمونها قد تحقق بعد، وإن كنا نسميها بسبب ذلك أمورا غيبية.

وبعد عرض أمثلة تلك الحقائق الواضحة التي لا يماري فيها عاقل نبادر فنقول: لا شك أن من العبث المضحك، أن نخاطِب بشيء من الحقائق الغيبية، من لم يؤمن بعد بوجود الله عز وجل و لم يصدق بعد ببعثة الأنبياء والرسل وبأن القرآن هو كلام الله. ونخلص مما سبق كله إلى أن مسائل الغيب فوق قدرة العقل البشري، أمرنا الله – عز وجل – أن نؤمن بها، وإيماننا بها نابع من إيماننا بطلاقة قدرته سبحانه وتعالى؛ فالإنسان ولا يحتكم إليه في أية قاعدة من القواعد التي شرعها، فله – عز وجل – الكمال المطلق، وهو منزه عن النقص.

الخلاصة:

  • أستند من آثار هذه الشبهة إلى دليل لا يقبله العقل؛ وذلك أنهم عقدوا علاقة تلازمية  بين إدراك الشيء بإحدى الحواس وبين وجود ذلك الشيء، وإن العقل ينص صراحة على أن عدم إدراك الشيء ليس دليلا على عدم وجوده.
  • أن الغيبيات أمور يقينية، وليست خرافة أو أساطير؛ وذلك أن الإيمان بها قائم على دلائل قاطعة، لا سبيل إلى تجاهلها، وهناك وجهين من وجوه الإعجاز الدال على أن الغيبيات التي يتحدث عنها القرآن والنبي من عند الله وهما الإعجاز الغيبي والإعجاز العلمي ولكل شواهده.
  • أن الإيمان بالغيب ضرورة عقلية، وحيوية، وإنسانية، وعملية. وليس بوسع أي إنسان أن يبرهن على عدم وجوده.
  • أن منطق الإلحاد وإنكار الغيب لو أذنت به البشرية لتعطلت مسيرة الحياة، ولن يجنى الإنسان سوى التيه والتخبط، إذا ما أنكر ما تنزلت به الشرائع.
  • لا تستقل الإدراكات الحسية بتحصيل المعرفة العلمية، وإن كانت تشكل أساسا تقوم عليه، ودعوة القرآن إلى استخدام الحواس، إنما هي دعوة إلى تحقيق هذه المعرفة، والتي يصل إليها الإنسان من خلال حركة العقل، فيما تقدم له الحواس. أما الإحساس المجرد فليس مقصودا بتلك الآيات.

مسائل الغيب فوق مدارك العقل البشري أمرنا أن نؤمن بها؛ لأن ذلك من تمام الإيمان وتعد أحد أركان الإيمان، فضلا عن كون إيماننا بها نابع من طلاقة قدرة الله.

السابق
ناقصات عقل ودين.. ازدراءٌ أم إقرارٌ بفطرة سليمة؟!
التالي
محاورة الملحدين.. اقتراب من الخطر بوعي وحذر!