أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم دولة الإسلام في المدينة بعدما هاجر من مكة المكرمة، وما أن استقر به المقام في المدينة النبوية حتى شرع في متابعة تبليغ دعوته، فقد أصبح الجو مهيأ أكثر من ذي قبل لنشر الدعوة ومواجهة الواقفين في سبيلها، وكان من أساليب المواجهة التي نهجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسمى اليوم بالمواجهة الاقتصادية، إذ عمد إلى ضرب اقتصاد المشركين عن طريق التعرض لقوافلهم التجارية المترددة بين مكة والشام، حتى يسترد المسلمون أموالهم التي سلبتها قريش، ولتشكل هذه المواجهة ضغطا على المشركين، يرغمهم على تعديل سياستهم في التعامل مع المسلمين.
ووفق هذه الخطة كانت هناك عدد من الغزوات قبل موقعة بدر الكبرى، والتي بدورها كانت بمنزلة التمهيد والإعداد لهذه المعركة الفاصلة، وكان مما تقدمها:-
غزوة الأبْواء (وَدّان)
كانت في صفر من السنة الثانية للهجرة، حيث خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من المهاجرين بعد أن استخلف سعد بن عبادة على المدينة بهدف اعتراض عيرٍ لقريش ، وهي أول غزوة غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حامل لواء هذه الغزوة حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وفيها عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفاً مع بني ضمرة على ألا يغزوهم ولا يغزوه، ولا يعينوا عليه أحدا، ولم يحدث قتال في هذه الغزوة، والأبواء وودان موقعان متجاوران بينهما ستة أميال.
إقرأ أيضا:قصة إسلام عبد الله بن سلامغزوة بُوَاط
وكانت في ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة، وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه بعد أن استخلف سعد بن معاذ على المدينة، وكان الهدف من الغزوة اعتراض عيرٍ لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، وكان حامل اللواء في هذه الغزوة سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه، وقد رجع المسلمون من غير قتال حين لم يعثروا على القافلة، “وبواط” جبال من جبال جهينة من ناحية رضوى.
غزوة سَفَوان
وكانت كذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة، حيث خرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع سبعين رجلاً في طلب كُرْز بن جابر الفِهْري الذي أغار على مراعي المدينة في قوات من المشركين، ونهب المواشي، فطارده المسلمون حتى بلغوا وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، ولذلك تسمى هذه الغزوة: “بدر الأولى” .
وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة ، وكان حامل لوائها علي بن أبي طالب .
إقرأ أيضا:الوثيقة الإسلامية في المدينة المنورةورجع المسلمون من هذه الغزوة دون حرب، حيث إنهم لم يدركوا كُرز الفهري .
غزوة ذي العشيرة
وكانت في جمادى الأولى والآخرة من السنة الثانية للهجرة، حيث خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة من المهاجرين، على ثلاثين بعيراً، حاملاً لواءها حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكان الخروج في هذه الغزوة اختياريا فمن شاء خرج، ومن شاء لم يخرج، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وكان الغرض من الغزوة اعتراض عيرٍ لقريش ذاهبة إلى الشام، فلما بلغ الجيش ذا العشيرة وجدوا العير قد فاتتهم بأيام، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في أوائل جمادى الآخرة، وخرج مرة أخرى لطلب العير في رحلة عودت القافلة من الشام، فكانت سبباً لغزوة بدر الكبرى، وكان من نتائج هذه الغزوة عقد معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني النضير . “والعشيرة” موضع بناحية ينبع.
ومن خلال هذه الغزوات استفاد المسلمون فوائد متعددة، منها ما يتعلق بتخويف العدو، وبعث رسالة للواقفين في وجه الدعوة الإسلامية, ومنها كسب بعض القبائل التي كانت تعاون قريش، ومنها إرباك قريش وإضعاف معنوياتها، وضرب نشاطها التجاري، بالإضافة إلى ما يتعلق بتقوية جيش المسلمين، وتدريبه على القتال، والصبر، والقيادة، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم، يعطي اللواء في كل مرة لقائد من القواد، فتتنقل الراية من حمزة إلى سعد بن أبي وقاص ، إلى علي ، ثم تعود إلى حمزة مرة أخرى – رضي الله عنهم جميعاً -، وكان يُنوِّع في الاستخلاف على المدينة، فمرة سعد بن عبادة ، وأخرى سعد بن معاذ ، وثالثة زيد بن حارثة ، ورابعة أبا سلمة المخزومي ، وهذا فيه دلالة عظيمة على حنكة القائد، وفطنته، وفيه تدريب على تحمل المسؤولية، والاستفادة من قدرات الجميع وإمكاناتهم، وفيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربي قادة، ويعلم أمة، ويرسم منهاجاً، فهل يعي المسلمون ذلك؟ خاصة أنهم في أمس الحاجة إلى النظر والتدبر في سيرة قائدهم وأسوتهم صلى الله عليه وسلم.
إقرأ أيضا:الهجرة النبوية ومنعطف التاريخ