الفصل الأول: تمهيد
المبحث الأول: تعريف الشرك
المطلب الأول: تعريف الشرك لغةً
جاء في “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس: «مادة الشرك المكونة من حرف الشين والراء والكاف أصلان:
أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد.
والآخر: يدل على امتداد واستقامة»
أما الأول: فهو الشرك، بالتخفيف أي بإسكان الراء، أغلب في الاستعمال، يكون مصدرًا واسمًا، تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركًا، بكسر الأول وسكون الثاني، ويأتي: شركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيها. ويقال: أشركته: أي جعلته شريكًا.
فهذه اشتقاقات لفظ الشرك في اللغة على الأصل الأول.
ويطلق حينئذ على المعاني الآتية:
1- المحافظة، والمصاحبة، والمشاركة:
قال ابن منظور: «الشَّركة والشَّرِكة سواء، مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك: المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء».
قال ابن فارس: «الشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلانًا في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلانًا، إذا جعلته شريكًا لك»، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } [طه:32]، قال الراغب: «الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدًا عينًا كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإنسان والفرس في الحيوانية».
إقرأ أيضا:الفرق اليهودية 5- القراءون
2- ويطلق أيضًا على النصيب والحظ والحصة:
قال الأزهري: «يقال: شريك وأشراك، كما قالوا: يتيم وأيتام، ونصير وأنصار، والأشراك أيضًا جمع الشرك وهو النصيب، كما قال: قسم وأقسام»، وقد ذكر هذا المعنى كل من الزبيدي وابن منظور، ومنه الحديث: « من أعتق شركاً له في عبد» [رواه مسلم بإسناد صحيح]، أي حصة ونصيبًا.
3- ويطلق أيضاً على التسوية:
قال ابن منظور: «يقال: طريق مشترك: أي يستوي فيه الناس، واسم مشترك: تستوي فيه معاني كثيرة».
4- ويطلق على الكفر أيضًا:
قال الزبيدي: «والشرك أيضاً: الكفر».
وأما الأصل الثاني وهو الذي يدل على الامتداد والاستقامة، فأيضًا يطلق على معان:
1- الشِرَاك ككتاب، سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكاً: إذا جعلت لها الشراك.
2- الشرك – بفتحتين – حبالة الصائد، الواحدة منها: شَرَكة، ومنه قيل: «وأعوذ بك من الشيطان وشركه» بفتح الراء.
3- الشركة – بسكون الراء -: بمعنى معظم الطريق ووسطه، جمعها: شرك – بفتحتين -.
فهذه هي المعاني لكلمة الشرك، والكلمات ذات المادة الواحدة غالبا يكون فيما بينها ترابط في المعنى، فإذا تأملنا مدلولات المادة السابقة نجد الترابط واضحًا بينها، فالمشرك يجعل غير الله مشاركًا له في حقه، فله نصيب مما هو مستحق لله تعالى، فهو سوى بين الله وبين من أشركه في حق الله، بمعنى أنه جعل مَن تألهه من دون الله مقصودًا بشيء من العبادة، ولا يلزم أن يساوي بين الرب جل وعلا وبين من أشركه معه في القصد والتعبد من كل وجه، بل يكفي أن يكون في وجه من الوجوه، وهو – أي الشرك – حبائل الشيطان، به يصيد أهله، وهو شبكة إبليس، أدخل أهله فيها، والذي يوجد فيه هذا الشرك لا يعتبر مسلمًا.
إقرأ أيضا:البشارة الثالثة بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس
وقد جاء في كتاب الشيخ مبارك الميلي “الشرك ومظاهره” ذكر مثل هذا الترابط، بأن مرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم، فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين، كما في قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } [الأحقاف:4]، فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة، فإنه ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل، فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
وإذا كان بمعنى الكفر فهو التغطية، والتغطية نوع من الخلط.
ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط للآخر، فموسى عليه السلام سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة، وقد أجيب سؤاله، لقوله تعالى: { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة، ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات: تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركائي في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، فهذا تقرير معنى الشرك في اللغة.
المطلب الثاني: معنى الشرك اصطلاحًا
لقد اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الشرك في الدين، وإن كانت هذه العبارات تكمل بعضها الأخرى، وفيما يلي بيان لبعض أقوالهم.
أ- بعض العلماء بدأ بالتقسيم قبل التعريف، ثم عرفه من خلال التعريف بأقسامه، منهم الراغب في “المفردات”، والذهبي في كتاب “الكبائر” – المنسوب إليه -، والإمام ابن القيم في “مدارج السالكين”.
ب- ومنهم من عرف الشرك في ثنايا كلامه – وإن كان التعريف لم يكن مقصودًا بذاته في ذلك الكلام – ولهم في ذلك عبارات مختلفة، منها:
1- يقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: «هو تشبيه للمخلوق بالخالق – تعالى وتقدس – في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده».
2- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: «هو صرف نوع من العبادة إلى غير الله، أو هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها».
3- وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: «هو أن يجعل لله ندًّا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة».
4- وقال أيضًا: «حقيقة الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية».
قلت: هذا التعريف شامل لجميع مدلولات الشرك.
5- وقيل: «هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه، مما ورد في الكتاب والسنة تسميته شركًا».
6- وقيل: «هو أن يثبت لغير الله سبحانه وتعالى شيئًا من صفاته المختصة به، كالتصرف في العالم بالإرادة الذي يعبر عنه بكن فيكون، أو العلم الذي هو من غير اكتساب بالحواس، أو الإيجاد لشفاء المريض واللعنة لشخص والسخط عليه حتى يقدر عليه الرزق أو يمرض أو يشفى لذلك السخط، أو الرحمة لشخص حتى يبسط له الرزق أو يصح بدنه ويسعد».
7- وقيل: «الشرك هو أن يعتقد المرء في غير الله صفة من صفات الله، كأن يقول: إن فلانًا يعلم كل شيء، أو يعتقد أن فلانًا يفعل ما يشاء، أو يدعي أن فلانًا بيده خيري وشري، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا بالله تعالى، كأن يسجد للشخص أو يطلب منه حاجة أو يعتقد التصرف في غير الله».
8- وقال الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي رحمه الله: «إن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله تعالى بذاته العلية وجعلها شعارًا للعبودية، لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه والنذر له، والاستعانة به في الشدة والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركًا».
قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط.
9- وقيل: هو «إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية، وفي العبادة».
قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط.
10- وقال الشوكاني: «إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه».
11- وقيل: «الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره».
قلت: هذا التعريف غير مانع، فإنه ليس كل إسناد مختص بواحد إلى من ليس معه أمره يعد شركًا، بل ربما يكون ظلمًا أو فسقًا.
فهذه – كما ترى – أقوال العلماء في تصور حقيقة الشرك، بعض منها جامع وليس بمانع، وبعضها ناقص، وبعضها كمثابة التمثيل على بعض ما وقع فيه الناس من أفراد الشرك في العبادة أو في الاعتقاد، وليس المراد أنهم ما كانوا عارفين بالشرك، ولكن لما كان من دأبهم ذكر النماذج دون إرادة الاستقصاء، ذكروا بعض الجوانب من الشرك، والجوانب الأخرى أشاروا إليها من خلال مصنفاتهم، ومؤلفاتهم، ومن فاته شيء منها ذكره الآخرون منهم، كما هو واضح في كتابتهم ومناظرتهم مع الذين وقعوا في الشرك في زمانهم.
والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الشرك حقيقته في اتخاذ الند مع الله، سواء كان هذا الند في الربوبية أو الألوهية.
وبهذا يتفق قول العلماء المحققين في حقيقة الشرك مع قول أصحاب المعاجم بأن أصل الشرك اتخاذ الأنداد مع الله.
فأصل الشرك – كما علمنا من البيان السابق – ما هو إلا اتخاذ الند مع الله، وهذا ما سيتضح لنا أكثر عند بيان حقيقة الشرك في نصوص القرآن والسنة.
إذا نظرنا إلى حقيقة الشرك في القرآن نرى: أن الله عزَّ وجلَّ بينها في كتابه بيانًا شافيًا واضحًا لا لبس فيه ولا غموض، فقال تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]،
معنى الآية: النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وقد نقل عن السلف في تفسير الآية مثل هذا القول، فمثلاً:
1- قال ابن عباس: «الأنداد: الأشباه، والند: الشبه، يقال: فلان ند فلان، ونديده: أي مثله وشبهه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: أجعلتني لله ندًّا » [الألباني وقال صحيح]، وكل شيء كان نظيرًا لشيء وشبيها فهو له ند.
2- قال ابن مسعود: «الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله» كما قال جل ثناؤه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا } [التوبة:31].
وقال الطبري: «قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عُدَيْ، اطْرَحْ هَذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، فطَرَحْتُهُ وانْتَهَيْتُ إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}، قلت: يا رسولَ الله، إنَّا لسنا نعبدُهم، فقال: ألَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أحَلَّ اللهُ فتُحَرِّمُونَهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فتُحِلُّونَهُ؟، قلتُ: بلى، قال: فتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» [ابن تيمية بإسناد حسن]، ففي هذا القول أيضًا: إثبات كون الشرك هو اتخاذ الند، فإن من أثبت حق التشريع والتحليل والتحريم لغيره سبحانه فقد أثبت له الند.
3- قال عكرمة: «{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا }أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك، فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندًّا وعدلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا وندًّا من خلقي، فإنكم تعلمون: أن كل نعمة عليكم مني».
4- قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له»، فمعنى الأنداد على هذا المعنى هي الآلهة، والآلهة عند الكفار بمعنى الشفعاء لهم عند الله، وقد سماهم الله عزَّ وجلَّ شركاء، فقال – في الرد على اتخاذهم آلهة -: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } [الأنعام:94].
5- قال مجاهد: «الأنداد: العدلاء».
والعدلاء هنا أيضًا بمعنى الشركاء لله في عبادته، قال الله تعالى: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي يشركون، ويقال: من مساواة الشيء بالشيء: عدلت هذا بهذا، إذا ساويته به عدلاً.
قال الطبري: «يجعلون شريكًا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره»
6- قال الطبري: «الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل».
والمقصود: أن اتخاذ الشبيه والكفؤ لله يسمى شركًا بالله، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى أنه لم يكن له كفؤ ولا شبيه ولا نظير، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال تعالى: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، قال أبو العالية في معنى الآية: «لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء»، أي كيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه، وهو الواحد الأحد، لا نظير له ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه ولا عديل.
هكذا بين الله في كتابه حقيقة الشرك بالله بيانا واضحا، وهو: اتخاذ الند مع الله، وكل ما ذكر في معاني الند من الكفؤ، والشبيه، والمثل، والعدل، والآلهة، كلها معاني متقاربة تدل على معنى الشرك بالله، والتي تدل صراحة أن الشرك في الحقيقة اتخاذ الند بمعنى الشبيه لله عز وجل كما سيأتي.
كما أن هذا المعنى هو المستفاد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها بيان حقيقة الشرك والدليل عليه:
1- ما روى الشيخان عن ابن مسعود قال: « سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ» [مسلم بإسناد صحيح].
2- ما رواه مسلم أيضًا عنه: قال: « قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أنْ تَدْعُو للهِ نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ » [مسلم بإسناد صحيح] – وفي آخره – فأنزل الله عزَّ وجلَّ تصديقها: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68].
3- وروى الشيخان عن أبي بكرة قال: « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ، ثلاثًا، الإشْرَاكُ باللهِ…» [رواه البخاري، صحيح].
ففي هذا الحديث ذكر أكبر الكبائر بأنه الشرك، فهو بمثابة التفسير للند المذكور في الحديثين السابقين.
وبهذا يحصل لنا حقيقة الشرك بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث فسر اتخاذ الند بالشرك، بأن الشرك أكبر المعاصي وأكبر الكبائر، وهو أن تجعل لله ندًّا ومثلا وشبيهًا وعديلاً في العبادة وكفؤًا في الطاعة، فمن جعل لله ندًّا وشبيهًا فقد أشرك.
وأيضًا اتضح لنا من خلال ما ذكرنا أن الشرك إنما هو اتخاذ الند والشبيه لله من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية الربوبية، فمن صرف شيئًا من هذه الخصائص لغيره فهو مشرك، فأصل الشرك وحقيقته إنما هو في التشبيه والتشبه.
قال ابن القيم: «حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به»، فالمشرك مشبه للمخلوق في خصائص الإلهية.
المبحث الثاني: هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟
هذا السؤال يتطلب جوابه أن نرجع إلى أصل الإنسان، فالذين يقولون إن أصل الإنسان أنهم خلقوا من نفس واحدة، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1] قالوا: إنهم خلقوا من آدم، وعليه اتفاق جميع الديانات السماوية، وعليه اتفقت كلمة أصحاب الملل – اليهود والنصارى والمسلمون – إلا من شذ منهم واتبع الملاحدة في أقوالهم وآرائهم، فجميع أصحاب الديانات السماوية يقولون إن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليهم.
ويستدل عليه من وجوه:
أولاً: أن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبيًّا يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد، حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: «أنبي هو؟ قال: نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه» ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالديانات السماوية الثلاث، الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: «ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لإتباعهم النبوة، فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38-39]، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم إتباع هداه المنزل»
ثانيًا: بين الله سبحانه أن البشرية كانت في أول أمرها على التوحيد، ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة، لقوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [البقرة: 213].
وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله ليردوهم إلى التوحيد.
قال الطبري: «وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة، وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة في عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام كما روى عكرمة عن ابن عباس ، وكما قاله قتادة»، ويؤيده ما جاء في قراءة أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين…) كما يؤيده قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ} [يونس:19]، وهو الذي رجحه ابن كثير معللاً بقوله: «لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»، ويقول: «ثم أخبر الله تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام»
ثالثًا: أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الفطرة التي فطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [الأعراف:172]، فهاتان الآيتان تبينان أن العباد كلهم مفطورون على التوحيد وأنه الأصل في بني آدم ،وقد فسر مجاهد الفطرة بأنها الإسلام.
رابعاً: بيّن الله في كتابه: أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى:13]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل:36]، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف:45]، وكل رسول افتتح دعوته لأمته بالدعوة إلى عبادة الله، فقال {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزل الله بها كتابًا ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخرى، فابتعث الله نبيه نوحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه، وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام…، فجعل الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل…، ثم بعث الله المسيح بن مريم» وقد قال قتادة: «ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحًا وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض».
خامسًا: ما رواه عياض بن حمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» [مسلم بإسناد صحيح].
سادسًا: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» [البخاري، صحيح]، ثم يقول أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديث: «فالصواب أنها فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا}[ الأعراف:172]،وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة…، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ».
وقال ابن القيم: «فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين، تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصور»، ويقول كذلك: «فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه ،فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة».
ومن هذا يتبين لنا أن الشرك لم يكن أصلاً في بني آدم، بل كان آدم ومن جاء بعده من ذريته على التوحيد إلى أن وقع الشرك.
فإن هذه الأدلة تنص على أن بني آدم عبدوا الله فترة من الزمن، وهي عشرة قرون كما يذكره ابن عباس رضي الله عنهم ثم انحرف من انحرف عن هذا المنهج القويم، فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد.
وهناك رواية أخرى تبين لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله عز وجل {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح:23] قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد ،حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت»، فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل.
المبحث الثالث: أصل الشرك وأسبابه
أوائل المشركين كما قال شيخ الإسلام: «صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم، فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر».
وكلا الفريقين عابد للجن فإنها التي تأمرهم به وتسوله لهم وترضى منهم الشرك ولذلك يقول الله جل وعلا: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41]،
وقد كانت الأصنام في زمن نوح عليه السلام صورًا لصالحين ماتوا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت» اهـ.
ويشير ابن عباس رضي الله عنهما إلى الآية: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
وقد كان الناس قبل ذلك فيما بين آدم عليه السلام ونوح مدة عشرة قرون كانوا كلهم على الإسلام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام».
وأما الشرك في زمن إبراهيم عليه السلام فقد كان بعبادة الكواكب، ولذلك ناظرهم في أن تلك الكواكب لا تستحق أن تعبد لأنها مربوبة مخلوقة مدبرة، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 75-78].
ثم إن الشرك دخل العرب بنقل عمرو بن لحي الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب» [الألباني بإسناد حسن].
وقد كان سافر إلى الشام للتجارة فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام فأخذ منها إلى مكة فأدخل فيهم الشرك.
وقد كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تقربهم إلى الله تعالى فاتخذوهم واسطة بينهم وبين الله، وهذا يشبه شرك القوم الذين بعث فيهم نوح عليه السلام.
وأما اعتقاد تأثير بعض الأشياء بخفاء مما لا يعلم له سبب ظاهر فيبدو أن ذلك دخل عليهم من أصل الكلدانيين الذين يعتقدون تأثير الكواكب، وكان هذا هو أصل شرك أولئك – قوم إبراهيم عليه السلام -، وقد كانت الشياطين تزين لهم عبادة تلك الكواكب، ولبست عليهم بأمور تدعوهم للاعتقاد فيها، وقد مثلوا لها تماثيل، فانتقل ذلك إلى العرب فوجد فيهم الاستسقاء بالأنواء، ومن مظاهر اعتقادهم تأثير بعض الأشياء بخفاء: اشتغالهم بالكهانة والطيرة.
وبهذا العرض يتبين جليًّا أن أصل شرك العالم هو عبادة الأشخاص ثم الكواكب، وهذا هو الشرك الذي أرسلت الرسل لإنكاره، وليس الشرك محصورًا في اعتقاد وجود رب آخر لهذا العالم مساو لله تعالى، بل هذا النوع لم يكن معروفًا في بني آدم كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله وبهذا يتضح جهل كثير من الناس في هذه الأزمان بحقيقة الشرك، ولزيادة المسألة إيضاحًا، يفرع على هذا بيان سبب الشرك، فلوقوع الشرك سببان:
السبب الأول: الغلو في المخلوق، ويكون بتنزيل المخلوق منزلة فوق منزلته فيصرف له شيء من حقوق الله، وهذا الأمر جلي وواضح يبينه أصل الشرك الذي حدث لقوم نوح وإبراهيم عليهما السلام كما تقدم مستوفى ولهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما السبب الثاني: فهو إساءة الظن برب العالمين:
وهذا السبب مترتب على السبب السابق، فإنه بعد غلو الشخص في المخلوق وحصول الجهل بالدين يتخذه وسيطًا يقربه إلى الله فيعطفه عليه في قضاء حاجاته، فيكون قد أساء الظن بإفضال ربه وإنعامه وإحسانه إليه، وهذا يحدث وإن اعتقد أن الله يسمع ويرى ويملك كل شيء.
قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، وكان ظن المشركين والمنافقين أن الله لن يحقق وعده بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال الله تعالى: { بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، وهذا الوصف وصف لله بالنقص، فكذلك من يعتقد أن الله لا يستجيب له إلا بوساطة يكون قد وصف الله بالنقص.
وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في رده على قومه: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85-87]، فقوله: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } حكي فيه وجهان:
الأول: ما ظنكم بربكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وهذا للتهديد.
والوجه الثاني: أي شيء تظنون برب العالمين أنه هو حتى عبدتم غيره؟ وهذا الأسلوب معني به تعظيم الله وتوبيخ المشركين.
ولا مانع أن يكون الوجهان مرادين، وعلى الوجه الثاني يظهر جليًّا أن من أسباب الشرك إساءة الظن برب العالمين.
وقال ابن القيم في سياق بيانه لأنواع الظن السيئ برب العالمين: «ومن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقط ظن به أقبح الظن وأسوأ» اهـ.
المبحث الرابع: أول شرك وقع في بني آدم
إن مما لا خلاف فيه أن أول شرك وقع في العباد هو شرك الشيطان، قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء:29]:
قال ابن جرير: «من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس».
وقال قتادة: «إنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس، لما قال ما قال لعنه الله، وجعله رجيمًا».
وقال الضحاك في قوله تعالى { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ }: «يعني من الملائكة إني إله من دونه، قال: ولم يقل أحد من الملائكة إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر».
فهذا أول شرك وقع على الإطلاق – فيما أعلم -، ولكن متى وقع أول شرك في بني آدم؟ اختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل، وقد حكى الإمام الطبري في تاريخه رواية تدل عليه، وهي «ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها».
فهذا القول نرى الإمام الطبري نقله بدون سند، بل صدره بقوله (ذكر) بصيغة التمريض، مما يدل على ضعفه عنده، وهو في نفسه ضعيف، كما سيأتي بيان ما يخالفه من القول الصحيح.
القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائل، وهو أبو إدريس عليه السلام، وقد حكاه أيضًا ابن جرير في تاريخه، فقال: «حدثني الحارث قال: حدث نا ابن سعد قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام».
ففي هذا السند نرى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وهما ضعيفان بل متهمان، ولا يقبل منهما، خصوصًا أن هذه الرواية خالفت الرواية الصحيحة – كما سيأتي -،ثم إن الكلبي هنا يروي التفسير عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع منه شيئًا، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتاب، فكيف الاحتجاج به؟.
والمقصود: أن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج.
القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل.
وتدل عليه رواية ابن الكلبي في كتاب الأصنام، قال فيها: «أخبرني أبي قال: أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات، جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند»، ثم روى عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «وكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل، إن لبني شيث دوارًا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء، فنحت لهم صنمًا، فكان أول من عملها».
فهذه الرواية أيضًا من قبل هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وهو عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد تطرقت لهذا السند بالنقد فيما قبل، فلا أعيده هاهنا، وإنما المقصود بيان كونه قولاً ضعيفاً للغاية.
القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح، ويستدل لهذا القول بما يلي:
1- قوله تعالى: ( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغوث وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )