ملخص المقال
- الخطيب البغدادي .. الحافظ المؤرخ، مقال يعرض حياة مؤرخ بغداد ومحدثها وصاحب كتاب تاريخ بغداد، فمن هو الخطيب البغدادي ؟ وما هي جهوده ؟
ترجمة الخطيب البغدادي في وفيات الأعيان
أورد ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان ترجمة الخطيب البغدادي، فقال: “الحافظ أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، صاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات؛ كان من الحفاظ المتقنين، والعلماء المتبحرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه، فإنه يدلُّ على اطلاع عظيم، وصَنَّف قريباً من مائة مُصنف، وفضله أَشْهَرُ مِن أن يوصَف، وأخذ الفقه عن أبي الحسن المحاملي، والقاضي أبي الطيب الطبري وغيرهما، وكان فقيهاً فغلب عليه الحديث والتاريخ.
وُلِد في يوم الخميس، لِسِتٍّ بقين من شهر جمادى الآخرة، سنة (392 هـ/ آذار / مارس سنة 1002م)، وتوفي يوم الاثنين، سابع ذي الحجة، سنة (463 هـ/ آب/ أغسطس سنة 1071م) ببغداد، رحمه الله تعالى، وقال السمعاني: توفي في شوال، وسمعت أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى كان من جملة من حمل نعشه، لأنه انتفع به كثيراً، وكان يراجعه في تصانيفه، والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمر يوسف بن عبد البر -صاحب كتاب الاستيعاب- حافظ المغرب، وماتا في سنة واحدة” فدفنوه إلى جانبه بباب حرب، وكان قد تصدق بجميع ماله، وهو مائتا دينار، فرَّقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يُتَصَدَّقَ عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كُتُبِهِ على المسلمين، ولم يكن له عقب، وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أحدَ مَن حَمَلَ جنازتَهُ، وقيل: إنه ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، ورؤيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث، وحفظه في وقته” [1].
إقرأ أيضا:أحمد شاكر.. شمس الأئمةالخطيب البغدادي عند الصفدي
توسع الصفدي بترجمة الخطيب البغدادي في كتابه الوافي بالوفيات، فقال: “انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان، والقيام بعلوم الحديث، وحُسن التصنيف، ولد بقرية من أعمال نهر الملك تعرف بِهَنِيْقِيَاْ، بهاء مفتوحة، ونون مكسورة، وياء آخر الحروف ساكنة، وقافٍ مكسورة، وبعدها ياء آخر الحروف مفتوحة، وبعدها ألف مقصورة، كذا وجدته مضبوطاً.
قال أبو الخطاب ابن الجراح يمدح الخطيب:
فاقَ الخطيبُ الورى صِدقاً ومعرفةً *** وأعجزَ الناسَ في تصنيفِهِ الكُتُبا
حمـى الشـريعـة مـــن غـاوٍ يُدنِّسُها *** بوضعـه، ونفـى التدليـسَ والكَذِبا
جلَّــى محــاســنَ بغـــداذٍ فأودَعَهــا *** تــاريْخَــهُ مُخْلِصــًا لله مُحْتَسِبـــا
وقال في الناس بالقسطاس منحرفاً *** عـن الهوى وأزال الشكَّ والرِّيبا
سَقى ثــراكَ أبــا بكــرٍ علـى ظَمَــأٍ *** جونٌ ركامٌ يَسحُّ الواكِفَ السّربا
ونِلــتَ فـوزاً ورضـوانــاً ومغفرةً *** إذا تحقَّــقَ وعـدُ اللهِ واقتـرَبــا
وقال الحافظ أبو طاهر السلفي يمدح مصنفات الخطيب:
تصانيف ابن ثابتٍ الخطيبِ *** ألذّ من الصبا الغضّ الرطيبِ
يراها إذ حواها مَن رواهـا *** رياضـاً رأسهـا ترْكُ الذنــوبِ
ويأخذ حُسن ما قد صاغ منها *** بقلبِ الحافظ الفطنِ الأريبِ
فأيَّــةَُ راحــةٍ ونعيـم عيشٍ *** يــوازي كتبــه؟ أم أيُّ طِيْـبِ؟
الخطيب البغدادي وطلب العلم
سمع الخطيب البغدادي العلم ببغداد من شيوخ وقته، وبالبصرة والرّيّ والدّينور والكوفة ونيسابور، وقدِم دمشق حاجّاً سنة خمس وأربعين وأربع مائة/1054م، فسمع بها، وبمدينة صور، وقرأ “صحيح البخاري” في خمسة أيام بمكة المكرمة على كريمة المروزية، وعاد إلى بغداد، وصار له قرب من الوزير رئيس الرؤساء، فلما وقعت فتنة البساسيري ببغداد استتر الخطيب، وخرج إلى الشام، وحدَّث بدمشق بعامَّة كُتبه، ثم قصَدَ مدينة صور اللبنانية، وأقام بها، وكان يتردَّد إلى القدس للزيارة، ثم يعود إلى صور، وتوجَّه إلى طرابلس الشام وحلب، وأقام بهما أياماً قلائل، ثم عاد إلى بغداد في أعقاب سنة 462 هـ/1070م، وأقام بها سنة إلى أن توفي، وحينئذ روى “تاريخ بغداذ” وروى عنه من شيوخه أبو بكر البرقاني والأزهري وغيرهما.
وكان يقول: شربتُ ماء زمزم ثلاث مرات، وسألتُ الله عزَّ وجلَّ ثلاث حاجاتٍ، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم “ماء زمزم لما شُرِبَ له”، فالحاجة الأولى: أن أُحدِّثَ بتاريخ بغداد، والثانية: أن أملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة: أن أُدْفَنَ إذا مِتُّ عند قبِر بشر الحافي.
فلما عاد إلى بغداد، حدَّث بتاريخه بها، ووقع إليه جزء فيه سماع الخليفة العباسي القائم بأمر الله، فحَمَل الجزء، ومضى إلى باب حجرة الخليفة، وسأل أن يُؤْذَنَ له في قراءة الجزء، فقال الخليفة: هذا رجل كبير في الحديث، وليس له إلى السَّماع مني حاجة، ولعلَّ له حاجة أراد أن يتوصَّل إليها بذلك، فاسألوه حاجته، فسألوه؟ فقال: حاجتي أن أملي الحديث بجامع المنصور، فتقدَّم الخليفة إلى نقيب النقباء بأن يؤذَنَ له في ذلك. ولما مات أرادوا دفنه عند بشر الحافي بوصيةٍ منه، وكان الموضع الذي بجنب قبر بشر قد حَفر فيه قبراً لنفسه، أبو بكر أحمد بن علي ابن زهراء الطريثيثي الصوفي، وكان يمضي إلى ذلك الموضع، ويختم فيه القرآن ويدعو، ومضى على ذلك سنون، فلما مات الخطيب سألوه أن يدفنوه فيه، فامتنع وقال: هذا قبري قد حفرته، وختمت فيه عدة ختمات، ولا أمكِّنُ أحداً من الدفن فيه، وهذا مما لا يتصور، فانتهى الخبر إلى سعد الصوفي، فأحضر الشيخ أبا بكر ابن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك: أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشراً الحافي في الأحياء، وأنت إلى جانبه، فجاء أبو بكر الخطيب يقعد دونك، أكان يَحْسُنُ بك أن تقعد أعلى منه.
إقرأ أيضا:ابن حجر – وكتابه الإصابة في تمييز الصحابةقال ابن زهراء: لا، بل كنت أقوم، وأُجْلِسُهُ مكاني.
قال أبو سعد: فهكذا ينبغي أن يكون الساعة في حالة الموت، فإنه أحقّ به منك، فطاب قلب ابن زهراء، ورضي بأن يُدفن الخطيب في ذلك الموضع” [2].
مكانة الخطيب البغدادي بين العلماء
روى مُحبُّ الدين ابن النجار بسنده عن أبي الوليد الباجي قال: رأيتُ الْحُفَّاظَ في ديار الإسلام أربعة: أبا ذر عبد بن أحمد، والصوري، والأرموي، وأبا بكر الخطيب، وأما الفقهاء فكثير، انتهى.
وحضر أبو بكر الخطيب درس الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فروى الشيخ حديثاً من رواية بحر بن كنيز بالنون والزاء السّقاء، ثم قال للخطيب: ما تقول فيه؟ فقال الخطيب: إن أذِنْتَ لي ذكرتُ حالَه، فأسند الشيخ أبو إسحاق ظهره إلى الحائط، وقعد مثلما يقعد التلميذ بين يدي الأستاذ يسمع كلام الخطيب، وشرع الخطيب في شرح أحواله، و هو يقول: قال فيه فلان كذا، وقال فيه فلان كذا، وشرح أحواله شرحاً حسناً، وما ذكر فيه الأئمة من الجرح والتعديل إلى أن فرغ منه، فأثنى الشيخ أبو إسحاق عليه ثناء حسناً، وقال: هو دارقطني عَهْدِنا.
وكان الخطيب يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وربما علّم على الأحاديث. وتفقه الخطيب على المحاملي وعلى القاضي أبي الطيب. وقال أبو علي البرداني: لعل الخطيب لم يَرَ مثلَ نفسه.
مؤلفات الخطيب البغدادي
ألف الخطيب البغدادي كُتُباً كثيرة طُبِعَ بعضُها، وضاع بعضها، ومازال البعضُ الآخر مخطوطاً، وقد ذكر الصفدي كُتُبَ الخطيب التي صنفها فقال: هي “تاريخ مدينة السلام – تاريخ بغداد” مائة وستة أجزاء. و”شرف أصحاب الحديث” ثلاثة أجزاء. و”الجامع” خمسة عشر جزءاً. و”الكفاية في معرفة الرواية” ثلاثة عشر جزءاً. و”تلخيص المتشابه” ستة عشر جزءاً. و”تالي التلخيص”، و”الفصل للوصل”.
و”المدرج في النقل” تسعة أجزاء. و”المكمل في المهمل” ثمانية أجزاء. و”غنية المقتبس في تمييز الملتبس” ستة أجزاء. و”مَن وافقت كنيتُهُ اسمَ أبيه” ثلاثة أجزاء. و”الأسماء المبهمة” جزء مجلد. و”الموضح” أربعة عشر جزءاً. و”مَن حدَّث ونسي”، و”تمييز متصل الأسانيد” ثمانية أجزاء. و”الخيل” ثلاثة أجزاء”. و”الآباء عن الأبناء”، و”الرحلة”، و”الاحتجاج بالشافعي”، و”البخلاء” أربعة أجزاء.
و”التطفيل” ثلاثة أجزاء. و”القُنوت” ثلاثة أجزاء. و”الرُّواة عن مالك” ستة أجزاء. و”الفقيه والمتفقِّه” اثنا عشر جزءاً. و”المؤتنف لتكملة المؤتلف والمختلف”. و”مُبهم المراسيل” ثلاثة أجزاء. و”البسملة من الفاتحة”. و”الجهر بالبسملة” جزءان. و”مقلوب الأسماء”. و”الأنساب” اثنا عشر جزءاً. و”صحّة العمل باليمين مع الشاهد”. و”أسماء المدلسين”. و”اقتضاء العلم للعمل”. و”تقييد العِلم” ثلاثة أجزاء. و”القول في علم النجوم”. و”روايات الصحابة عن التابعين”. و”صلاة التسبيح”. و”مُسند نعيم بن هماز”. و”النهي عن صوم يوم الشك”. و”الإجازة للمعدوم والمجهول”. و”روايات الستة من التابعين بعضهم عن بعض”. و”مُعجم الرواة عن شُعبة” ثمانية أجزاء.
و”المؤتلف والمختلف” أربعة وعشرون جزءاً. و”حديث محمد بن سوقة” أربعة أجزاء. و”الْمُسلسلات” ثلاثة أجزاء. و”طُرُقُ قبضِ العلم” ثلاثة أجزاء. و”غسل الجمعة ” ثلاثة أجزاء. و”الدلائل والشواهد” [3].
شعر الخطيب البغدادي
لم يقتصر نشاط الخطيب البغدادي الثقافي والعلمي على العلوم الشرعية، وإنما قرَضَ الشعر أيضاً، ومن شعر الخطيب رحمه الله، قوله:
لا تغبطنَّ أخا الدُّنيا بزخرُفِها *** ولا لِلذةِ وقتٍ عجَّلتْ فرَحا
فالدَّهرُ أسرعُ شيءٍ في تقلُّبهِ *** وفعله بَيِّنٌ لِلخلق قد وضحا
كــم شـاربٍ عَسَلاً فيه مَنِيَّتُهُ *** وكم تقلَّد سيفاً مَنْ بهِ ذُبِحَا
ومن شعر الخطيب البغدادي، قوله:
تغيَّب الخلقُ عن عيني سوى قمرٍ *** حسبي مِن الخلق طُراً ذلك القمرُ
محلُّـــهُ فــي فــؤادي قـد تَمَلَّكَـهُ *** وحاز روحي، وما لي عنه مُصْطَبَرُ
فالشمـسُ أقـرب منه في تناوُلِها *** وغايــة الحــظِّ منــه للورى النظرُ
أردْتُ تقبيلَــهُ يومــاً مُخــالَسَـــةً *** فصــار مِــن خاطــري في خدِهِ أثرُ
وكــم حليــمٍ رآه ظنَّــه مَلَكــاً *** وراجــع الفكــرَ فيــه أنــه بَشــرُ
ومن شعره، قوله:
لو قِيلَ ما تَتَمَنَّىْ؟ قلتُ في عَجَلٍ *** أخاً صَدُوْقاً أمِيناً غيْرَ خَوَّانِ
إذا فعلـتُ جَميـلاً ظـلَّ يَشكُرُنِــي *** وإنْ أسَــأتُ تَلَقّانِيْ بِغُفرَانِ
ويَسترُ العيْبَ فِي سُخْطٍ وحالِ رِضىً *** ويَحفظُ الغيبَ في سِـرٍّ وَإعلانِ
وأينَ في الْخَلْقِ هذا عزَّ مَطلَبُهُ؟ *** فليس يوجدُ ما كَرَّ الْجَدِيدانِ
[1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت 1994م، 1/ 92- 93.
[2] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، الناشر: دار إحياء التراث – بيروت، عام النشر:1420هـ- 2000م، 7/ 126- 127.
[3] السابق، 7/ 130- 131.
* نشرت هذه الواحة في جريدة الحياة، العدد: 15285 الصفحة : 15، يوم السبت 5 / 2/ 2005م.
المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية – الأحد، 28 يوليو، 2013م.