عاشت الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية مرحلة من أسوأ مراحل حياتها وشؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعانت فوضى عامة في كافة أمورها، وأصبح الشرك والجهل والفساد الأخلاقي من أبرز ملامح هذه الفترة من عمرها، وانشغل الناس فيها بالصراعات التي أدت إلى حروب طاحنة بينهم.
والحالة الدينية للجزيرة العربية قبل البعثة المحمّدية كانت قائمة على الوثنية التي تعمّقت جذورها فيها، وكانت عبادة الأصنام هي الديانة الغالبة عليهم آنذاك، رغم وجود أفراد من الموحدين عُرِفوا في مكة بالأحناف, وهم بقايا من العرب كانوا يدينون بدين إبرهيم عليه السلام، واليهودية كانت متواجدة بقلى في اليمن ويثرب (المدينة المنورة), وكذلك كانت النصرانية موجودة في نجران والحيرة وأطراف الشام، ولم يَسْلَم أيّ من تلك الأديان من التحريف الذي طرآ عليها عبر الزمن، فانطوت على كثير من الشرك والمغالطات والضلالات، فنفرت منها النفوس..
والوثنية التي كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية كانت تؤمن بوجود الله, لكنها اتخذت أصناماً وآلهة مصنوعة من الحجر والخشب وغير ذلك وسيلة للقرب إلى الله. ومن هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها: اللات، والعزى، ومناة، وقد ذكرها الله عز وجل في سورة النجم بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}(النجم: 20:19)، وقد امتلأت الكعبة بالأصنام التي بلغ عددها ثلاثمائة وستين صنمًاً من مختلف الأنواع والأشكال.. ولا عجب من كثرة هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، فقد روى البخاري عن أبي رجاء الْعُطَارِدِىَّ قال: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر! فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به).
وقد حالت هذه الوثنية الحمقاء بين العرب وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وإن زعموا أنها – الأصنام – لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله تقربهم إليه، كما قال الله تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}(الزُّمر:3). قال الطبري في تفسيره: “عن مجاهد في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قال: قريش تقوله للأوثان، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزَير”.
ويصف لنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أحوال الناس في مكة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول للنجاشي ملك الحبشة: “أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار”.
لقد كانت الجزيرة العربية ـ قبل البعثة المحمدية ـ غارقة في الوثنية, ولم يبْق أحد يتمسَّك بالدين والتوحيد، والأخلاق والقيم، إلا القليل، وبعضهم كان من أهل الكتاب، وقد أشار النبي صلى الله عليه إلى ذلك، فعن عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته (أعطيته) عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء (مائلين عن الشرك إلى التوحيد) كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (ذهبت بهم) عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) رواه مسلم.
قال القاضي عياض: “وأما قوله: (فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) فالأظهر أنه أراد قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم، لأن العرب كانت حينئذ ضُلالاً”. وقال الهروي في “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” : “(وإن الله نظر إلى أهل الأرض) أي: رآهم ووجدهم متفقين على الشرك منهمكين في الضلالة، (فمقتهم) أي: أبغضهم (عربهم وعجمهم).. أبغضهم بسوء صنيعهم وخُبْث عقيدتهم، واتفاقهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم على الشرك، وانغماسهم في الكفر، قوم موسى عليه السلام كفروا بعيسى، وعبدوا عُزَيْراً، وذهبوا إلى أنه ابن الله، وقوم عيسى ذهبوا إلى التثليث، أو إلى أنه ابن الله وغير ذلك، (إلا بقايا من أهل الكتاب) أي: من اليهود والنصارى تبرأوا عن الشرك، كذا قاله بعضهم، والأظهر أن المراد بهم جماعة من قوم عيسى بقوا متابعته إلى أن آمنوا بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم”.
لقد عاشت البشرية عامة والجزيرة العربية خاصة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلالات الشرك والجهل، وفشا فيها الفساد، ودارت الحروب على أسباب واهية، وأصبحت البشرية على شفا حفرة من النار، تحتاج إلى من ينقذها وينتشلها مما هي فيه.. وهنا آن أوان البعثة المحمدية، وظهرت بشريات الصبح والنور، فبعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الشرك إلى التوحيد، ومن الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ}(إبراهيم:1). قال الطبري: “وأما قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} فإن معناه: هذا كتاب أنزلناه إليك، يا محمد، يعني القرآن، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يقول: لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفرِ، إلى نور الإيمان وضيائه، وتُبصِّر به أهلَ الجهل والعمَى سُبُل الرَّشاد والهُدَى”.