عاش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة وستين عاماً، وأتاه الوحي في سنّ الأربعين، فظلّ يجاهد ويكافح ويدعو قومه، ويربّي أتباعه ثلاثاً وعشرين سنةً، يقضي فيها على الوثنية المترسّخة في فكر العرب، ويؤسس لدعائم الحضارة التوحيديّة الفاضلة .
والنظرة الفاحصة لسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والمتأمل لأخلاقه لا يملك إلا أن يقرّ بنبوته من خلالها، وبصدق دعوته على ضوئها، وفيها مِنَ العِبر والتأسي ما يكون منهاجاً للبشرية جمعاء، مفتاحاً لسعادتي الدنيا والآخرة، ذلك أن أخلاقه ـ عليه السلام ـ قائمةٌ على قيم الإسلام وتعاليمه، وعظمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي نابعةٌ من عظمة هذا الدين القيّم، وكفى بالله ـ سبحانه ـ شاهداً إذ يثني على رسوله في سورة القلم : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم الآية: 4 ) ..
وتزيد أم المؤمنين عائشةٌ ـ رضي الله تعالى عنها ـ حين سألها قتادة ـ رضي الله عنه ـ عن خلُق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : ( كان خلقه القرآن ) رواه مسلم .
فمن كان هذا حاله فإن كلّ صفةٍ من صفاته وكل سلوكٍ من سلوكه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مكرمةٌ تستحق الوقوف عندها، والاقتداء بها .
فالمتتبع لسيرته يجد أن أخلاقه كالرحمة، والشجاعة، والصدق والأمانة وغيرها، موجودةٌ فيه منذ صغره، تبرز بسرعة وبشكلٍ طبيعيٍّ دون تكلّفٍ، لذلك عُرف ـ عليه السلام ـ بين رجال قريشٍ بلقب ” الأمين “، فكانوا لا يرتابون في صدقه، أو أمانته أو إخلاصه، مما جعلهم يطمئنون لرأيه أثناء تحكيمه بين قبائل العرب فيمن يضع الحجر الأسود موضعه من الكعبة، بعد أن اختلفوا في ذلك طويلاً، دون أن يصلوا إلى حلٍّ يرضي الجميع .
فتصرف ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحكمةٍ بالغةٍ، فخلع رداءه، ووضع عليه الحجر الأسود، وأمر رؤساء القبائل كلها أن تحمل هذا الرداء لرفع الحجر الأسود إلى مكانه، وهذا كان قبل النبوّة فتأمل ! .
فحكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنقذت القبائل العربية من الفتنة والاقتتال، وزادت أخلاقه تأدّباً واكتمالاً بالوحي .
لذلك لما سُئلت عائشةٌ ـ رضي الله عنها ـ عن أخلاقه، أحالت السائل على القرآن الكريم لأنه تأدّب بتوجيهاته وتخلّق بتعاليمه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فلو أرادت أن تذكر أخلاقه وصفاته بالتفصيل لما استطاعت الإحاطة بها .
يقول ابن هشام في سيرته : ” فشبّ رسول الله تعالى، والله يكلؤُه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسَباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانةً، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تُدنّس الرجال تنزّهاً وكرماً ” .
مكارم أخلاقه في معاملته لأصحابه :
يقول الله تعالى مخاطباً نبيّه : { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ }(الأعراف الآية: 199)، فالنص القرآني جمع مكارم الأخلاق في ثلاثة عناوين جامعةٍ :
{ خُذِ العَفْوَ }: وفي أخذه بالعفو صلةٌ لمن قطعه، وصفحٌ عمن ظلمه، وغفرانٌ لمن عاداه .
{ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ }: وفي الأمر بالعرف تقوى الله وهي منبع كل خير، ودعوة لكل مكرمة ونهي عن كل رذيلة وفاحشة .
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ }: وفيه تنزيه النفس عن مماراة السفيه، وتضييع الوقت معه .
وفي تتبّع سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخصوص تعامله مع أصحابه، نجد أنفسنا أمام الجانب العمليّ لهذه الأخلاق القرآنية ومنها :
التفقّد والرعاية :
فقد كان يتفقّد أصحابه، ويسأل عنهم، فمن كان غائباً دعا له باليُمْن والسلامة، ومن كان حاضراً زاره، ومن كان مريضا عاده، ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( كنا جلوسا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ، ثم أدبر الأنصاري ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أخا الأنصار ، كيف أخي سعد بن عبادة ؟، فقال : صالح ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ يعوده منكم ؟، فقام وقمنا معه ) .
ومن ذلك ما قاله عثمان ـ رضي الله عنه ـ : ( لقد صحبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير ) رواه أحمد .
احترام مشاعر أصحابه :
فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتجنّب جرح أحاسيسهم، وكلما أراد تقويم وانتقاد تصرّف من تصرفاتهم، لا يسمي صاحب الخطأ حتى لا يخجل صاحبه، بل ينتقد الفعل الخاطئ ويوجه إلى الصواب، ومن ذلك ما يكون في الأحاديث من استعمال صيغة ( ما بال أقوام ) .
الصبر والحِلم :
ما لم يخلّ الخطأ بمقاصد التشريع الإسلامي، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبر على المسيء، ويقابل الإساءة بالعفو والصفح، لمعالجة أسباب الخطأ والإساءة .
توجيه اهتمامات أصحابه لفعل الأولويات :
بحيث لا يقبل أن يضيعوا وقتهم في تعليم وتعلّم أمر لا نفع فيه، فقد سأله أعرابي : ( متى الساعة ؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وما أعددتَ لها ؟، فقال الأعرابي : لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال : أنت مع من أحببت ) رواه البخاري .
فوجّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأعرابي إلى عدم السؤال عن شيء لا يفيد إن لم يرافقه عملٌ واستعدادٌ صالح .
التواضع :
فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكره أن يتميّز عن الناس بالقيام له حين دخوله، فقد خرج على أصحابه يوماً متوكّئاً على عصا، فقاموا إليه فقال : ( لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضاً ) رواه أبو داود .
كما كان يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، ولا يلبس لباساً متمّيزاً به، حتى أن الغريب يأتي ولا يدري أيّهم رسول الله حتى يسأل .
وأخلاق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه، لم تهتمّ بترسيخ القيم الاجتماعية والأخلاقية فحسب ، بل دعمها ووجّهها عمليّاً نحو الدفاع عن الدين والجماعة، من خلال الاعتماد على المبادئ التالية :
ـ إعطاء المثل في الصبر والشّجاعة على الجهاد، لتربية أصحابه على ضرورة الدّفاع عن الدّين والأمة، قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : ( كنا إذا حمي الوطيس، أو اشتدّ البأسر واحمرّت الحَدَق ـ أي اشتدّت المعركة وغالبهم العدو ـ اتّقينا برسول الله، فما يكون أحدٌ أقرَب إلى العدو منه ” رواه أحمد .
ـ تفضيل الطرق السلمية لحلّ الخلافات بين الأعداء، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحاشى إراقة الدّماء ما استطاع، وذلك ما فعله عندما حلّ بالمدينة مع اليهود في البداية قبل نقضهم العهد، حيث وادعَهم وأقرّهم على حرية ممارسة دينهم وحفظ أموالهم .
ـ قبوله مبايعتهم على أساس الالتزام بالكتاب والسنة .
ـ تعويد أصحابه العمل الشّريف، والبعد عن الاتّكال ابتغاء مرضاة الله وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـ استشارة أصحابه، والاستفادة من إمكانياتهم العقليّة، وخبراتهم في الحياة، أثناء السّلم أو الحرب. فكان ـ عليه السلام ـ لا يتأخّر عن الاستشارة، امتثالاً لقوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }(آل عمران من الآية:159) .
هذه بعض معالم حياة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاجتماعية بين أصحابه، إذْ مَنْ كان خُلُقه القرآن تصعب الإحاطة بكلّ صفاته وفضائله الدّالة على نبوّته، وحسبنا في هذا الباب ما يحقق المقصود، على أن نقف على بابٍ آخر من حياته – صلى الله عليه وسلم ـ في الجزء الثاني من المقالة .
أبوعبد الرحمن الإدريسي