من الهجرة إلى بدر

الأذان : شعيرة الإسلام والمسلمين

كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة وقت الضعف والاضطهاد ، أما وقد قامت دولتهم في المدينة ، فليجهروا بالأذان والإقامة ، وليركعوا مع الراكعين ..

فبعد هجرة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة واستقراره بها بنى مسجده المبارك ، واجتمع شمل المهاجرين والأنصار ، وارتفع لواء الإسلام ، وأصبح المسلمون يجتمعون في المسجد للصلاة ، وكانوا يأتون وقت الصلاة بدون إعلام فيصلون وينصرفون ..

تشاور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع أصحابه لإيجاد شيء يُعْلِم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة ، فقال بعضهم نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي بأنه لا يفيد النائم ولا ينبه الغافل . وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً .. وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه الرسول – صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كان يحب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم . وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسول – صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً .. وأشار فريق آخر بالنداء ، فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فقيل هذا الرأي ..

ثم تشرف برؤية الأذان في المنام أحد الصحابة الأخيار عبد الله بن زيد بن عبد ربه ـ رضي الله عنه ـ ، فأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ، والقصة بكاملها مروية في كتب السنة والسيرة .

إقرأ أيضا:المؤاخاة من دعائم الدولة الإسلامية

عن أبى عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال : ( اهتم النبي – صلى الله عليه وسلم – للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك . قال : فذكر له القنع – يعنى الشبور ( ما ينفخ فيه لإحداث الصوت )، وقال زياد : شبور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال : هو من أمر اليهود . قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى . فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لِهَمِّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأُرِىَ الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، فقال له : يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما .. قال : ثم أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فقال له : ما منعك أن تخبرني؟! ، فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذن بلال .. ) ( أبو داود )..

إقرأ أيضا:صحيفة المدينة

وكان بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ أحد مؤذني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة ، والآخر عبد الله بن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ ، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حيّ على الفلاح : الصلاة خير من النوم مرتين ، وأقرّه الرسول – صلى الله عليه وسلم – عليها ، وكان يؤذن في البداية من مكان مرتفع ثم استحدثت المنارة (المئذنة) بعد ذلك ..

أخذ الجو يرتج بنداء التوحيد ، وصوت الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء ، ويدوي في الآفاق ، ويهز أرجاء الوجود ، ويعلن كل يوم خمس مرات بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وينفي كل كبرياء في الكون وكل دين في الوجود ، إلا كبرياء الله ، والدين الذي جاء به عبده محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن ثم كان أذان الصلاة ( الله أكبر .. الله أكبر) شعاراً لأول دولة إسلامية ..

قال ابن حجر : ” قال القرطبي وغيره : الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة ، لأنه بدأ بالأكبرية : وهي تتضمن وجود الله وكماله ، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشريك ، ثم بإثبات الرسالة لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول ، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم ، وفيه الإشارة إلى المعاد ، ثم أعاد ما أعاد توكيداً ، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت ، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام .. ” .

إقرأ أيضا:بناء المسجد النبوي

هذه هي قصة الأذان الذي ينطلق به صوت المؤذن خمس مرات في اليوم والليلة في أرجاء الدنيا كلها ، ولا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء ، إلاَّ شهد له يوم القيامة ، كما أخبرنا بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

وفي هذا الحدث من أحداث السيرة النبوية عِبَر كثيرة منها : أن رؤيا المؤمن صالحة وتحمل البشرى له ولمن رؤيت له ، وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مخالفة اليهود والنصارى ومشروعية ذلك ، وبيان أن المؤذن صاحب الصوت الندي أولى بالأذان من غيره ، وفضل بلال ـ رضي الله عنه ـ وأنه أول مؤذن في الإسلام ..

السابق
الأدب مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
التالي
أُعْطِيتُ جوامع الكلم