من جواهر الإسلام

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

لقد فشلت كل المشروعات السياسية التي تعول في الإصلاح على استجابة الدولة لا على إرادة المجتمع، كما فشلت تلك المبادرات التي تجاهلت صانع الحضارة، وهو الإنسان، وقد حان الوقت للالتفات إلى المجتمع، والتعويل عليه لينهض من سباته الذي طال، بتنمية الإنسان والتركيز على تحريره وفتح الطريق أمامه للعمل الإبداعي والاجتماعي الفعال، والأخذ بيده إلى تحويل أفكاره إلى أنشطة وأفعال، وإلا فإن التخلص من الوهن وانحدار الأخلاق سيكون من المحال!

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (تنشر مقالات السلسلة أسبوعيا بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

خطوات صغيرة لإنجازات كبيرة!

الأخلاق

المطلوب على وجه التحديد هو التحرك الواعي الرشيد -بكل السبل المتاحة- لإحباط مخططات الاستضعاف والإذلال…

انتهى المقال السابق بوعد بطرح بعض المقترحات العملية للتحرك في مواجهة الوهن، لاسيما في واقع معقد ومتشعب، تزداد فيه الصعوبات والمحاذير، وتغلق فيه منافذ العمل شيئًا فشيئًا، حتى بات من يهتم بالشأن العام ويحاول أن يسهم في إصلاحه، ولو بمجرد الكتابة أو بالكلام، عرضة للمساءلة والتضييق في كثير من البلدان الإسلامية.

والحقيقة أن أفق العمل في مواجهة الوهن ومساحاته لا يزال بالغ الاتساع لمن اتسع أفقه ولم يحصر رؤيته في مدخل وحيد للإصلاح (حتى لو كان ذلك المدخل مغلقًا إلى أجل غير مسمى)، حيث لا يزال الطريق مفتوحًا على مصراعيه أمام من يريدون تعطيل سياسات الاستكبار في الهيمنة على المجتمعات عبر إفقارها وتجهيلها وإفقادها ثقتها بنفسها وتفتيت شبكة علاقاتها البينية وتيئيسها من النهوض لتظل في حالة من جمود الفكر والحركة والإحساس بالعجز تجاه سياسات القهر والتهميش.

إقرأ أيضا:أبو الوفاء البوزجاني .. احتراف الابتكار في علوم الرياضيات

نفس الميادين!

ومن البديهي القول بأن ميادين الاستضعاف هي نفسها ميادين العمل على استرداد العزة؛ فالمطلوب على وجه التحديد هو التحرك الواعي الرشيد -بكل السبل المتاحة- لإحباط مخططات الاستضعاف والإذلال، وذلك عبر العمل التطوعي؛ التثقيفي والتربوي والتنموي والإنساني والخيري في مقاومة الإفقار والتجهيل والاستعباد ونشر اليأس والإحباط وفقدان الثقة في الذات وفض الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

ويعني التركيز على العمل التطوعي –ببساطة- أن يتحول المواطنون المستضعفون الصالحون، إلى مواطنين أقوياء فَعَّالين مصلحين، والمثقفون (بفتح القاف) إلى مثقفين (بكسر القاف) وهذا هو الطريق الوحيد المنجي من الهلاك الذي إذا وقع يشمل المفسدين والمستضعفين ولو كانوا صالحين، مصداقًا لقوله تعالى: “فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ” (هود: 116،117).

ولن يفلح هذا العمل وينتج أثره الفعال إلا إذا كان جماعيًا اختصاصيًا، بمعنى أن يتولى كل مختصين في مجال ما عملية الإصلاح في هذا المجال، على أن يكون تكوينهم في شكل مجموعات -أو فرق عمل- إصلاحية، لا في شكل جماعات كبيرة قد تفهم شمولية الإسلام على أنها تستوجب تفرد تنظيم واحد –أو عدد من الجماعات- بالقيام بكل المهام اللازمة لتنزيل قيمه وأحكامه على واقع الناس أجمعين، وكأنها تجري عملية تجسيد للإسلام في شخصها، وهو أمر ثبتت أضراره المتعددة ومخاطره، ومن ثم تأكد عدم جدواه في التمكين للمجتمع ولعزته.

إقرأ أيضا:خديجة وسمية.. رفعةُ مقامٍ لا تعرف الطبقية!

ولمزيد من التبسيط لهذا الاقتراح، فإنني أفترض –على سبيل المثال- أن في كل قرية، أو شارع أو مدينة أو مؤسسة أو مهنة…- عدد متفرق من الأفراد يريدون أن ينهضوا بمجتمعهم الصغير كنواة للنهوض بالمجتمع الكبير، فإن على هؤلاء أن يشكلوا شبكة علاقات اجتماعية فيما بينهم، ويدرسون مشكلات قريتهم ويرتبونها بحسب أولوية كل مشكلة وبقدر الإمكانات المتاحة لهم، ثم يبدأون في العمل على حل تلك المشكلات على التوازي؛ فإذا افترضنا أن القرية يعاني أهلها من الفقر والأمية والجهل والتفكك الأسري وتأخر الزواج وتفشي الطلاق، فإنه يجري تقسيم عدد المشكلات على مجموعات المصلحين، كل فيما يحسنه، فيقوم المثقفون بحصر عدد الأميين ويجري تقسيمهم وتوزيعهم على كل مثقف منهم لتعليمهم وتوعيتهم بحقيقة دينهم وكيف يتقوون به في معركتهم ضد الاستضعاف، وكذلك بدورهم في الحياة وبواقعهم وتحدياته وكيفية مجابهتها (وهذه الفكرة سبق نقلها عن مالك بن نبي)، بينما تتكون مجموعة ثانية لإنشاء جمعية خيرية –رسمية أو غير رسمية فلا فرق بينها طالما كانت لا تقوم بنشاط يخالف القانون- تختص بتنمية الأفراد والتواصل مع أثرياء القرية لتمويل مشروعات صغيرة يشتغل بها المعدمون، بينما تقوم مجموعة ثالثة لإعفاف الشباب والفتيات بالعمل على تيسير الزواج عبر الإسهام في تحمل جزءًا من تكاليفه بعد الإسهام في تعريف كل منهم بالأنسب له تقديرًا، مع الاستعانة بخطباء المساجد في التوعية بعدم شرعية المغالاة في المهور وخطورة ذلك على تأخير الزواج واستحالته عمليًا، بينما تشكل مجموعة رابعة للتحكيم في قضايا الأسرة وحبذا لو تقوم بتنظيم دورات للمقبلين على الزواج لتوعيتهم به وبمسئولياته وتحدياته حتى يتجنبون الصراع والشقاق ويتعلمون كيفية إحداث الوفاق والشراكة في مواجهة أعباء الحياة.

إقرأ أيضا:كيف عالج النبي مشكلتي العنف والإرهاب ؟

أمثلة إصلاحية…

حلقة قرآن

نموذج لحلقات إصلاح نوعية يقوم بها المعلم أو محفظ القرآن..

وقد يكون من الملائم كذلك ذكر أمثلة لما يمكن أن تقوم به المجموعات الإصلاحية على مستوى مهنة من المهن كذلك، فالأطباء الشرفاء –بحق- من الممكن أن يخصصوا يومًا في كل أسبوع لعلاج الفقراء، والمحامون يتعاونون في الدفاع عن ضحايا الظلم والبغي سواء بعمل نقابي جماعي أو من خلال تواصل المصلحين منهم لتنسيق عملية الدفاع القانوني عن هؤلاء الضحايا، ولاسيما الفقراء منهم، وقس على ذلك المعلمين (ومحفظي القرآن) الذين تنفتح أمامهم عادة أبواب التوعية والتثقيف أكثر من غيرهم.

وتنبغي ملاحظة أن طبيعة أعمال هذه المجموعات الإصلاحية والسياق الذي تعمل فيه ينبغي أن تكون غير مركزية وباستقلالية شبه كاملة، خاصة وأنها لا تحتاج إلا إلى خبراء يدرسون السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تجري في ظلها عمليات التخلص من الوهن، وهي مهمة يمكن أن تقوم بها مراكز الأبحاث الاجتماعية والثقافية –على المستوى العام- تدرس مجتمع المستضعفين وخطط المستكبرين للسيطرة عليهم لترشد إلى مواطن الخلل وإلى كيفية إصلاحها، أما على المستوى الخاص فيمكن أن يتولى هذه المهمة المثقفون في كل مجموعة إصلاحية، فمهمتهم الأساسية هي نشر الوعي والإرشاد إلى ما يتعين من السعي، ورسم خطط العمل، وقيادة عملية البناء الحضاري، وإلا فلا حاجة إليهم!

وقد يندهش القارئ من بساطة هذه الأمثلة ومن مثاليتها في الوقت نفسه، ولكن هذا هو السبيل الأمثل لاستعادة العزة؛ أن يقوم كل فرد بمسئولياته الاجتماعية، وأن يجري ذلك بشكل لا يصادم أحدًا ولا يعرض أصحابه للهلاك، مما يجذب أكبر عدد من الصالحين الخائفين والمترددين، ويرد لهم روحهم وإيجابيتهم وفعاليتهم ومن ثم يقضي على إحباطاتهم وعجزهم، وكل ذلك عبر خطوات صغيرة متاحة لكل أحد، تقوم على أفكار مجردة لا يستطيع أحد أن يوقفها، عكس الأفكار المشخصنة التي يسهل القضاء عليها جبرًا أو إغواءّ!

فهل نتجه إلى العمل فورًا أم سيظل كل منا يلعن الظلام ويشكوا من سوء الأخلاق وغلبة الشقاق ثم يذهب إلى سريره لينام طويلا ويحلم كثيرًا؟!

السابق
كيف عالج النبي مشكلتي العنف والإرهاب ؟
التالي
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)