من جواهر الإسلام

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

علينا أن نتذكر دائمًا أننا ننتمي لأمة ذات حضارة عريقة سادت العالم قرونًا عديدة، علمًا وخُلقًا، وأننا نستطيع دومًا أن نعود (خير أمة أخرجت للناس)، لأننا لا نزال نمتلك كل أدوات الإقلاع الحضاري، وعلى رأسها عقيدة دينية دافعة (ورافعة) من شأنها أن تنتشل الإنسان من هوة التخلف والانحدار وتسمو به إلى الآفاق ورفعة الأخلاق إذا ما جرى تفعيلها في حياة الإنسان المسلم على نحو صحيح، وشريعة تهدينا دومًا للحق والوسطية والتوازن والاعتدال، وأخلاق راسخة كالجبال…

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

أنتم الأعلَون!!!

الأخلاق

إن إصلاح صورة المسلمين عند ذواتهم حتى يتخلصوا من الضعف والوهن والاستكانة مرتبط ارتباطًا لازمًا برسوخ إيمانهم وبثبات عقيدتهم الدينية.

لا يزال الحديث موصولا عن ضرورة إصلاح صورة الذات السلبية لدى المسلم المعاصر المقيدة لمقاومته حالة الوهن -التي تمكنت منه- التي تمكنت منه تجاه قهره وإهداره والتسلط عليه على يد مستكبرين استخفّوا به واستغلوا ضعفه وهوانه وتراجعه المتراكم عبر الزمان والمكان، مما أورثه حالة من العجز والانكسار أضعفت ثقته بنفسه وبقدرته على استعادة مكانته التي تليق به وسط البشر، وهي مكانة “الشهود الحضاري”، لا “القعود الحضاري”!

إقرأ أيضا:مريم جميلة.. حفيدةُ إبراهيم الخليل!

والواقع أن التركيز على انتشال المهزوم من السقوط في براثن الإحساس بالعجز والهوان هو منهج قرآني أساسًا؛ فقد حرص المولى عز وجل على أن يغير صورة المسلمين الذهنية أمام ذواتهم بعد هزيمتهم في غزوة أحد –على سبيل المثال- وأمرهم بألا يهنوا ولا يجزعوا من تلك المصيبة التي أصابتهم، واستبدل بها صورة أخرى، هي صورة المؤمنين المعتزين بأنفسهم الواثقين من انتصارهم مستقبلا بشرط أن تتوافر لديهم الثقة في موعود الخالق –سبحانه- لهم بالنصر والتمكين، وملاحظة أن أعداءه سبقوا أن ذاقوا من كأس الهزيمة نفسه، وهي سنة ربانية؛ سنة تداول النصر بين الناس ابتلاءً وتمحيصًا لهم في أحوال متباينة ليعلم المجاهدين منهم من القاعدين، وليميز الخبيث من الطيب، وليمحق الكافرين ويملي للظالمين، (راجع من قوله تعالى: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” (آل عمران:139)، إلى قوله: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (آل عمران:200).

الاستعلاء.. مفهوم يخالف منظومة الأخلاق الإسلامية..

وهنا يجدر التنبيه أن البعض قد عبر عن العلو الإيماني بمفهوم “الاستعلاء”، وهو تعبير غير موفق –من وجهة نظري- باعتباره قد يؤدي إلى الشعور السلبي المنافي للأخلاق الإسلامية القويمة، وهو التعالي على الناس، مما أدى (أو بالأحرى أودي) بالبعض إلى الاستكبار العنصري على بقية المسلمين بحجة أنهم أكثر منهم إيمانًا، بينما مقصود الآية هو “الاعتزاز”، وهو مفهوم إيجابي أقرب إلى حقيقة ما يأمر به الإسلام من تواضع ولين الجانب مع ثقة كبيرة في النفس المعتزة بدينها.

إقرأ أيضا:في ذكرى مولده (3).. العزيمة و الإرادة في حياة سيد الخلق

وقد سبق أن خاطب الله سبحانه سيدنا موسى –عليه السلام- بالخطاب نفسه حينما “أوجس في نفسه خيفة” حين ألقى سحرة فرعون عصيهم وخدعوا أبصار الناس فرأونها ثعابين، فثبت سبحانه قلب موسى ونهاه عن الخوف: “قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى” (طه: 68)، إنه الاعتزاز الإيماني نفسه الذي يعصم الإنسان من الشعور بالعجز والخوف والانكسار والمذلة والاستكانة لغير الله، ولذا عاد موسى في لحظة أصعب من تلك حين طارده فرعون وظن أصحابه أنهم مدركون بعد أن أصبح البحر أمامهم والعدو خلفهم، فإذا بموسى الواثق بنصر الله يعلنها قائلا: “كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” (الشعراء: جزء من الآية 62).

ومن أجل ذلك يلاحظ أن الطعن في الإسلام يزداد مع شدة التسلط على المسلمين والرغبة في السيطرة عليهم باعتباره هو العاصم لهم من الاستسلام لغير الله عز وجل، وهو ما نلمسه الآن من الهجوم عليه عبر أذرع إعلامية جبارة تبث سمومها وافتراءاتها لتشويه الإسلام في جميع أنحاء العالم، باتهامه –خلافًا للحق وللحقيقة- تارة بأنه دين إرهابي، وتارة باتهامه بأنه يظلم المرأة، وتارة بوصمه بمعاداة الحرية (ويقصدون بها غالباً الانفلات والانحلال لا التحرر من هيمنة البشر وسيادة النزعة الاستهلاكية عليهم جميعا)، وتارة أخرى بالتشكيك في الفقه الإسلامي وإظهاره بمظهر الفقه المتخلف وغير العقلاني عبر تتبع بعض الفتاوى الشاذة فيه مثلما تتتبع الخنازير القمامة وسط الحدائق الخضراء (حيث يساعدهم على ذلك بعض الفقهاء والدعاة الموظِّفين للدين، أو الذين يستدرجون للسقوط في هذا الفخ عن غير عمد)، وتارة عبر القتل المعنوي المتعمد لرموزه التاريخية والدعوية، بل ولمن يرفعون شعاراته، بالحق أو بالباطل!

إقرأ أيضا:زينب وابنُ الربِيع.. قصة حب في بيتِ النَّبي

هذه الأكاذيب من شأنها أن تضعف ثقة كثير من المسلمين في دينهم بسبب ضعف اطلاعهم أصلا على عظمته وجهلهم بقوته الذاتية، فتجتمع عليهم إلى جانب مصيبة فقدان ثقتهم في ذواتهم، مصيبة اهتزاز ثقتهم في دينهم الذي يمنحهم المعنى والأمل والعزة، ويدفعهم لمقاومة كل محاولات استعبادهم عبر الاعتصام بالله والتوكل عليه سبحانه، فيقعدون ويستكينون عكس ما يفعل المؤمنون حقًا “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” (آل عمران: 173).

 ومن هنا ندرك أن إصلاح صورة المسلمين عند ذواتهم حتى يتخلصوا من الضعف والوهن والاستكانة مرتبط ارتباطًا لازمًا برسوخ إيمانهم وبثبات عقيدتهم الدينية وبالحفاظ على ثقتهم في الإسلام، وهو الأمر الذي ينبغي التفات المصلحين إليه بدلا من استدراجهم إلى هاوية جلد الذات، أو هاوية الانشغال بمسائل سطحية تنتمي إلى الماضي فإذا بهم يساهمون في إحيائها بما يلهيهم عن التصدي للقضايا الكبرى والاستجابة للتحديات المعاصرة.

والخلاصة أن الخروج من الوهن يستلزم أولا إصلاح التصورات الذهنية للواهنين المنكسرين؛ فيدركون أن القهر حدث نتيجة لتراكمات تاريخية قديمة لا ذنب لهم فيها غالبًا، بل تتحملها أجيال سابقة، ويعلمون أن ذلك لا يعفيهم من المسئولية عن العمل الجاد المخلص على التخلص من هذا القهر لا الاستسلام له كما هو ديدن الكثير من المسلمين المعاصرين للأسف الشديد، ويؤمنون أنهم غير مكلفين شرعًا إلا ببذل غاية الوسع في دفع هذا البلاء في حدود قدراتهم مع التوكل على الله وحده في ذلك، ويَعُون بأنهم هم الأعلون بإيمانهم وبأخلاقهم وبتاريخهم العريق، وأن الهجوم المتواتر على دينهم الآن يرجع إلى قوته وقدرته على انتشالهم من القاع وإعادتهم إلى القمة، ومن ثم يستأصلون الوهن من قلوبهم، ويستردون مناعتهم وعافيتهم تمهيدًا للانطلاق إلى الأمام واثقين معتزين بأنفسهم وبقدرتهم على الإقلاع من جديد، فيلتفتون إلى سؤال العمل، وهو السؤال موضوع المقال المقبل >>>

السابق
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)
التالي
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)