من جواهر الإسلام

الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (26)

ينبغي الآن أن نلتفت من جديد إلى ما سبق أن طرحه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الأشهر “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” مع تعميمه على كافة أنواع الاستبداد، وليس فقط الاستبداد السياسي الذي كان يركز عليه الكواكبي في كتابه، نظرًا لخطورة الإدارة الاستبدادية بصفة عامة، سواء في الأُسر، أم المؤسسات، أم المجتمعات، أم الدول، فإن: “الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة” (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص: 122).

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر*

الصدق في بلاد الخوف!

الأخلاق

الحقيقة أن الاستعصام بالصدق هو القرار الوحيد الذي من شأنه أن ينجي الإنسان في عالمنا المخيف من العذابين؛ الدنيوي والأخروي.

اختتم المقال السابق بالتنبيه إلى خطورة الإدارة الاستبدادية بصفة عامة على غرس الكذب والنفاق في حياة الأفراد والمجتمعات، وهو أمر ينبغي أن يشغلنا بشدة، باعتبار أن كثيرًا من بلادنا العربية والإسلامية باتت خاضعة لاستبداد جاثم على نفوسها حتى استحقت بجدارة لقب “بلاد الخوف”!

إقرأ أيضا:إهدار حقوق الإنسان.. هل الشريعة الإسلامية نموذجا؟! “دراسة”

ونحن نلمس آثار تلك الكارثة التي حلَّت بالعالم الإسلامي من قديم، من انتشار الأخلاق المذمومة فيه حتى بات الكذب وكأنه هو الأصل في العلاقات الإنسانية والاجتماعية، بينما هو –في حقيقته- أحد أركان النفاق الأساسية التي تجعل من صاحبها شخصًا متلونًا لا تدري حقيقة شخصيته!

وقد عبر لي يومًا أستاذنا الدكتور أحمد كمال أبو المجد –حفظه الله- عن استيائه من بيئة الكذب والحيرة التي أصبحنا نعيش فيها، حتى أنه –وهو المفكر الكبير، والخبير الذي تعدى عمره حينها الثمانين عامًا- بات عاجزًا عن تمييز صدق الشخص من عدمه على الرغم من أنه كان من قبل يُقيِّم الإنسان من جلسة واحدة، يعرف خلالها ما إذا كان الشخص الذي أمامه صادق أم كاذب، فقد كانت الناس -من قبل- واضحة بما فيه الكفاية (على حد قوله)!

والواقع أن هذه الملاحظة الدقيقة للدكتور كمال أبو المجد تكشف عن حجم المأساة التي تعاني منها المجتمعات التي تعيش في ظل الاستبداد (بمفهومه الشامل الذي أشرنا إليه في المقال السابق)، حيث يكاد يكذب الجميع على الجميع، حتى المستبدون منهم؛ فإنهم يضطرون للكذب الفج على من يتسلطون عليهم ليُحكموا زمام هيمنتهم عليهم، لاسيما المستبدين بالشعوب الذين باتوا: (يكذبون بمنتهى الصدق، يخونون بمنتهى الإخلاص، يدمرون بلدانهم بكل وطنية، يقتلون إخوانهم بكل إنسانية، ويدعمون أعداءهم بكل سخاء) (الشاعر: أحمد مطر).

إقرأ أيضا:عيد الأم.. ليس يوما واحدا بل احتفاءٌ لا يتوقف

أما الخائفون -من ضحايا الاستبداد- فلقد صاروا يرفعون –في المقابل- شعارات بعضها تتسم بالنفاق والانتهازية، وتعكس الشعور بالقهر والدونية، مثل: “عش نملة تأكل سكر”، مع أن حالهم في الحقيقة ليس كحال النمل المجاهد، بل هو أقرب إلى حال الحرباء التي تتلون للوصول إلى فريستها أو حتى لتبقى تعيش في سلام، ولو كانت عيشتها دنيئة مذلة!

وهذا الحال قد يجعل المواطن في بلاد الخوف في حيرة؛ فهو إذا التزم الصدق قد يصبح منبوذًا في مجتمعه –الصغير والكبير- أو شاذًا، فيُطرد أو يُلعن، مثله مثل العملة الجيدة التي تطردها العملة الرديئة، فهل يختار اعتزال مثل هذا المجتمع أم يهجره إذا أراد أن يحافظ على إيمانه وصدقه؟ أم يصبو إلى ما يدعونه إليه، من الكذب والتلون والمداهنة، فيخسر نفسه؟

والحقيقة أن الاستعصام بالصدق هو القرار الوحيد الذي من شأنه أن ينجي الإنسان في عالمنا المخيف من العذابين؛ الدنيوي والأخروي، على الرغم من تكاليفه الغالية، فهو الاعتصام الذي نجا به من قبل النبيِّون والصديقون والشهداء والصالحون جميعًا، حين فطنوا أنهم في (فتن سننية)، يتبين بها الله –عز وجل- الكاذبين من الصادقين، ليقيم الحجة على الجميع، فاختار المفلحون الصدق سبيلا للنجاة وعضوا عليه بالنواجذ، بينما المفسدون استعصموا بالكذب واتخذوه سبيلا لحياة مليئة بالمذلة والمهانة، فكانت عاقبتهم من جنس صنيعهم؛ مهانة في الدنيا وفي الآخرة!

إقرأ أيضا:كيف عالج النبي مشكلتي العنف والإرهاب ؟

وهناك مثل ليت الناس يلتفتون إليه، ولاسيما هؤلاء الذين ظنوا أن الكذب والنفاق هو سبيلهم الوحيد للتعامل مع قسوة هذا العالم المخيف، بعد أن توهموا أن أفق الإصلاح فيه قد انسد تمامًا أمامهم، وهو يكمن في الحديث الذي رواه البخاري –في صحيحه- عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز، فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة، فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها فأبت، إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها، فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا).

الصدق.. صدق الإيمان

والصدق كما ورد في المواقف الثلاث المذكورة في الحديث هو صدق الإيمان، الذي يتمثل في مراقبة الله عز وجل وخشيته الذي انعكس على التعامل مع تلك المواقف، فهذا الإنسان التقي يراقب الله عز وجل فلا يكتفي بأن يحتفظ بحق الأجير كما هو، بل يُنميه له حتى يعود إليه، بينما الثاني يدرك أن بر والديه مقدم على رعاية صغاره فيظل واقفًا متحملا آلام الوقوف وجوع أولاده حتى لا يزعج الوالدين الذين ربياه حين كان صغيرًا، بينما الثالث كاد أن يقع في الفحشاء لولا أنه تذكر فنهى نفسه عن الهوى وأحسن إلى صاحبة الحاجة التي جاءت تلوذ به، فكانت النجاة للثلاثة الأبطال من الهلاك.

والمتأمل في هذه الحادثة من قاطني بلادنا المخيفة له أن يقارنها بحاله، فقد يكتشف أن معوقات الإصلاح في هذه البلاد، تمثل الصخرة التي أغلقت علينا الغار (أوطاننا) ومنعت عنا النور والحرية وأوشكت على إهلاكنا من الجوع، وأنه لم يبق أمامنا من خلاص إلا الاستعصام بالصدق والإخلاص، لعل الله ينظر إلينا بعين رحمته فيزيح عنا هذا البلاء وتنزاح الصخرة وينفتح لنا باب الغار المهلك المخيف، فننهض كما نهض العالم من قبلنا!

فهل من أبطال يستعصمون بصدق العقيدة، وصدق العمل، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً!

السابق
مكانة المرأة في الإسلام.. حقائق تكذب الادعاءات!
التالي
الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (27)