ملخص المقال
- ابن فضل الله العمري عبقري الجغرافيا والأدب، مقال يشمل حياة ابن فضل الله ووظائفه ومؤلفاته ومنزلته العلمية في ميدان الجغرافيا والأدب
يعد أحمد ابن فضل الله العمري واحدًا من رواد علوم الأدب والجغرافيا والحضارة والعمران في تاريخ الحضارة الإسلامية، فقد احتل مكانة علمية كبيرة على المستوى العربي والإسلامي والعالمي؛ نتيجة جهوده العظيمة في مجال الدراسات الأدبية والجغرافية والتاريخ وأحوال العمران.
ويكتسب كتابه الموسوعي »مسالك الأبصار في ممالك الأمصار« أهمية كبيرة، فهو موسوعة شاملة عن العالم العربي والإسلامي حتى القرن الثامن الهجري = الرابع عشر الميلادي، ومن أضخم الموسوعات العربية التي تفاخر معظم مكتبات العالم بامتلاك أجزاء منها، والعمري إمام عصره في معرفة الممالك والمسالك، وخطوط الأقاليم ومواقع البلدان وخواصها، وأحوال سكان الأرض، وحَل التقويم، وصُوَر الكواكب.
اسمه وكنيته ولقبه
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله بن يحيى بن المجلي بن دعجان بن خلف القرشي العدوي العمري، ينتهي نسبه إلى عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لذا لقِّب بـ “العمري”. مؤرخ، حجة في معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمام في الترسل والإنشاء، عارف بأخبار رجال عصره وتراجمهم، غزير المعرفة بالتأريخ العربي والإسلامي على الجملة.
إقرأ أيضا:جمال حمدان – والوصول إلى روح الجغرافيا
مولده
أجمعت المصادر والمراجع على أن العمري ولد في مدينة دمشق في الثالث من شوال سنة 700هـ = 1301م. وتردد آخرون ومنهم الصفدي حين ذهب إلى أن ولادته كانت سنة 701 أو 700هـ، قال في الوافي:» والظاهر أن مولده سنة إحدى وسبعمائة أو سنة سبعمائة«.
أسرته
نشأ ابن فضل الله العمري في أسرة ذات عراقة أدبية، تولى عدد من أفرادها وظيفة صاحب ديوان الإنشاء لأكثر من قرن تقريبًا. وقد ربطته تقاليد أسرته بعمل الدواوين، فعمل في ديوان الإنشاء مع والده لما كان الأخير كاتب السر بدمشق في أيام سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة.
وفي عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، ذهب ابن فضل الله إلى القاهرة، فتقلد جملة وظائف هامة، فشغل حينا منصب قاض بمصر، وخلف أباه في رئاسة ديوان الإنشاء، وولاه السلطان الناصر وظيفة المشرف على البريد.
شيوخ ابن فضل الله
أخذ ابن فضل الله العمري عن كثير من الشيوخ، ودرس عليهم علوم اللغة والفقه والحديث والأصول والأحكام الصغرى والعروض والشعر والأدب. فأخذ عن والده القاضي محيي الدين أبو الفضل العدوي (ت 738هـ) العروض والأدب. وقرأ العربية على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مُسلّم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وعلى الشيخ برهان الدين قليلًا، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقد رثاه ابن فضل بقصيدة عدتها 78 بيتًا. والعروض على شمس الدين الصايغ، وتأدّب على علاء الدين الوداعي. وقرأ جملة من المعاني والبيان على العلامة شهاب الدين محمود الحلبي الدمشقي، وقرأ عليه تصانيفه، وجملة من الدواوين وكُتب الأدب، قال ابن فضل الله: “هو شيخي في الأدب، لزمته منذ قدم دمشق حتى مات، أقرأ عليه وأقرئ له”. وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني وقد أذن له بالإفتاء على مذهب الإمام الشافعي. وقرأ ابن فضل الله بعض الفقه على الفقيه ابن الفركاح. وقرأ بمصر على الشيخ أثير الدين، وسمع منه. وسمع بدمشق والقاهرة والحجاز والإسكندرية، ومن بلاد الشام أخذ عن ست القضاة بنت القاضي محيي الدين يحيى بن أحمد، الدمشقية (ت 712هـ)، وست الوزراء الشيخة الصالحة، المعمرة، مسندة الوقت أم عبد الله بنت القاضي شمس الدين عمر (ت 716هـ).
إقرأ أيضا:أبو الحسن الهروي
وظائفه وأعماله
شغل ابن فضل الله العمري أعمالًا كثيرة وتقلب في وظائف الدولة، فكتب الإنشاء بدمشق أيام بني محمود، ثم ولي والده كتابة السرّ بدمشق، ثم طُلب ابن فضل الله إلى مصر هو ووالده في سنة 728هـ، فباشر كتابة السر للسلطان الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، نيابة عن والده محيي الدين الذي ولي كتابة سر دمشق، ثم لما ولي والده كتابة السر بمصر أيضًا، صار هو يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفذ المهمات، واستمر كذلك في ولاية والده الأولى والثانية، كما أنه جلس في دار العدل قاضيا بمصر. ثم إنه فاجأ السلطان الناصر بكلام غليظ، فقد كان قوي النفس، فتغير عليه السلطان فأبعده، وصادر أمواله وسجنه بالقلعة سنة 738هـ، ثم أفرج عنه بعدما أقام مسجونا سبعة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ولي بعدها كتابة السر بدمشق أول سنة 741هـ، وعزل بعد سنتين وأشهر ثم رسم عليه أربعة أشهر، وطلب إلى مصر، فشفع فيه أخوه علاء الدين، كاتب السر بمصر فقال: “لا بد من أن أرى وجه أخي”، فدخل مصر، وأقام أيامًا ثم عاد إلى دمشق، واستمر بعيدًا عن أعمال الدولة، ولكنه انصرف إلى التأليف والتصنيف.
مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه
أجمع العلماء والمؤرخون على امتداح ابن فضل العمري والثناء عليه علمًا وأدبًا ودراية وتصنيفًا. ولم نجد فيما توافر لدينا من مراجع تاريخية وأدبية من ذمه أو نقص من قدره، وهذا يدل على علو مكانته، وسعة فضله. فقد كان ابن فضل الله العمري أديبًا وناظمًا وناثرًا ومؤرخًا وفقيهًا، وكان يتوقد ذكاءً مع حافظة قوية، وصورة جميلة واقتدار على النظم والنثر، مع سعة الصدر، وحسن الخلق وبشر المحيَّا.
إقرأ أيضا:ياقوت الحموي – الجغرافي الأديبكان حسن المذاكرة سريع الاستحضار جيد الحفظ فصيح اللسان جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء.
ونورد فيما يأتي آراء العلماء والمتأدبين القدامى فيه: وأول ما يطالعنا في هذا المجال رأي تلميذه الصفدي الذي قال عنه الكثير والكثير، وغالب من جاء بعده أخذ من كلام الصفدي أو ما في معناه، من ذلك قوله إن العمري: «رزقه الله بأربعة أشياء لم يرها اجتمعت في غيره، وهي: وهي الحافظة قلمَّا طالع شيئًا إلا وكان مستحضرا لأكثره. والذاكرة التي إذا أراد ذكرى شيء من زمن متقدم كان ذلك حاضرا كأنه إنما مر به بالأمس. والذكاء الذي تسلط له على ما أراد وحسن القريحة في النظم والنثر أما نثره فلعله في ذروة كان أوج الفاضل لها حضيضا ولا أرى أحدًا فيه جودة وسرعة عمل لما يحاوله في أي معنى أراد وأي مقام توخاه وأما نظمه فلعله لا يلحقه فيه إلا الأفراد. وأضاف الله تعالى له إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن».
كما ذكر الصفدي أن العمري كان أحد الأدباء الكملة الذين رآهم، ويعني بالكملة “الذين يقومون بالأدب علما وعملا، في النظر والنثر ..”. وأما عن سبقه في التاريخ والجغرافيا فقال الصفدي: ” ولم أر من يعرف تواريخ ملوك المغول من لدن جنكيز خان وهلم جرا معرفته، وكذلك ملوك الهند الأتراك، وأما معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم ومواقع البلدان وخواصها فإنه فيها إمام وقته، وكذلك معرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب”. ويقول ابن الوردي: “منزلته في الإنشاء معروفة، وفضيلته في النظم والنثر موصوفة”. وقال فيه ابن رافع: “جمع تاريخا، ونظم الشعر الفائق، وقال النثر الرائق، وكتب الإنشاء بالبلاد الشامية”.
وأشار ابن كثير إلى محبة العمري للعلماء والفقراء، يقول: “وكان حسن المذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء”. أما ابن حبيب، فركز على الجانب الديني عند العمري، قول: “كان صالحا زاهدا متورعا عابدا، طيب الأعراق، رقيق النفس، حسن الأخلاق، طاهر القلب واللسان، وآمرا بالعدل والإحسان، ينقل الخير ولا يتوقف، ويقوم الليل”. وحظي العمري عند الزركشي باهتمام بالغ، فقد وصفه: “بالكاتب المترسل الفاضل، له الأدب الرائق، والتشبيه الفائق الذي لو سمعه المتنبي لاشتغل به عن ذكر العذيب، أو سمعه ديك الجن لصاح، أو ابن قلاقس لطار قلبه ..”.
وبسط القلقشندي رأيه في إنشائه وكتابته التي كانت ككتابة أهل عصره وإنشائهم، فمبناها قائم على التخيل والتزام المحسنات البديعية، من السجع والجناس والتورية وغيرها، على نحو ما كان في كتابة القاضي الفاضل وابن نباتة. وذهب تقي الدين المقريزي إلى ما ذهب إليه الصفدي، فقال: “له حافظة قوية، ومحاضرة جميلة وكلامه فصيح بليغ، وله غوص في المعاني، وعنده اقتدار على النظم، بحيث تساوت بديهته وارتجاله، وكان يكتب من رأس قلمه بديها ما يعجز عنه غيره ..، وكان إماما في الأدب عارفا بتراجم الناس، سيما أهل عصره”. ونعته ابن تغري بردي، فقال فيه: “كان إماما فاضلا بارعا، ناظما ناثرا، جوادا ممدحا، وله المصنفات المفيدة”.
ومن العلماء الذين أثنوا عليه ابن إياس الحنفي (ت 930هـ)، فأشار إلى جودة نثره، وبراعته في الشعر والخط، يقول: “كان عالما فاضلا، بارعا في صنعة الإنشاء، وله في ذلك المصنفات الجليلة، والعبارة اللطيفة في الإنشاء، ..كان ناظما ناثرا وله خط جيد، عالي الطبقة”.
كانت هذه آراء القدامى وأقوالهم في ابن فضل الله العمري، وإذا نظرنا إلى الكتب الحديثة وجدناها تؤكد ما جاء في الكتب القديمة. فالمحدثون كالقدماء يصفون العمري بأنه أديب علامة، صاحب ذوق أدبي مرهف.
أما كراتشكوفسكي فرأى أن العمري كان غزير المادة، يتمتع بذوق أدبي مرهف، وأن معرفته الجيدة بأسرار البلاغة، وتملكه بجدارة ناصية اللغة العربية، جنباه بمهارة فائقة الإطالة والإسهاب، وجعلاه يحصر اهتمامه في الجوهري فقط.
أما المستشرق الألماني كارل بروكلمان، فقال عنه: “وهو من أسرة من كتاب الدولة المشهورين فقد كان والده كاتبا أمينا للسر يحمل الخطابات الواردة للسلطان، كما كان تلميذا لشهاب الدين محمود بن فهد ..”.
مؤلفات ابن فضل الله العمري
إن شخصية العمري شخصية فريدة فذة قليلة المثال في التاريخ، فالرجل لم يعش أكثر من تسع وأربعين سنة وصل فيها إلى أوج الرتب بتوليه ديوان الإنشاء، وإذا ما أسقطنا سنوات طفولته وفترة تحصيله العلم في سنوات يفاعه، وإذا أسقطنا من حسابنا سنوات المحنة التي تعرض لها، لم نستطيع أن نخفي دهشة ليس إلى تجاهلها من سبيل، لأن الآثار العلمية لابن فضل الله العمري تكون قد كتبت في أقل من خمس وعشرين سنة مزدحمة إلى جانب ذلك بهموم الوزارة ورئاسة ديوان الإنشاء.
فقد كان لابن فضل الله العمري الفضل في الكثير من الدراسات، فقد عني بدراسة الجغرافية السياسية والفلك، وتواريخ الأمم وعجائبها، وتجول في البلاد من الشام إلى الحجاز والأناضول وغيرها من بلاد الأرض. فترك العمري مؤلفات عديدة في ضروب من العلم مختلفة جمع فيها فأوعى، وهي تشهد بسعة اطلاعه وتعدد ميادين ثقافته. ومنها:
1- كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”
وهي دائرة معارف كبرى جغرافية، تعد من أجل الموسوعات وأكثرها أهمية، وهي أقدم مصدر وصف فيه مصنفه دولة المماليك والدول الإسلامية المعاصرة لها، وضمنه كثيرا من العلوم الإنسانية. طبعت الموسوعة في ثمانية وعشرين جزءا. قال فيه الصفدي: “كتاب حافل، ما أعلم أن لأحد مثله”.
2- التعريف بالمصطلح الشريف
يتعلق هذا الكتاب بتراتيب الدولة ومراسم الملك، اهتم به أرباب الدواوين، ومنهم القلقشندي الذي أطلق عليه اسم “الدستور”، وقد أسس ابن ناظر الجيش عبد الرحمن بن محمد التميمي الحلبي المتوفي سنة 786هـ، عليه كتابه المعروف “تثقيف التعريف بالمصطلح الشريف” والمطبوع بالقاهرة، سنة 1987م. وقد حقق الكتاب محمد حسين شمس الدين في بيروت، كما حققه د. سمير الدوربي الأستاذ في جامعة مؤتة بالأردن.
3- عرف التعريف بالمصطلح الشريف
وهو كتاب في ترتيب المكاتبات، حققه د. سمير الدروبي، وأشار بعض الباحثين إلى أن هذا الكتاب هو اختصار للكتاب السابق، وبين المحقق أن هذا الكتاب ألف قبل “التعريف”. وأن موضوع التعريف هو في السلطانيات أي المكاتبات السلطانية، أما عرف التعريف فموضوعه في الإخوانيات.
4- فواضل السمر في فضائل آل عمر
والكتاب عبارة عن دراسة عن أسرة العمري ورجالاتها وفضائلها، وقد دفعه أصل نسبته إلى الخليفة عمر بن الخطاب إلى تصنيف هذا الكتاب، ويقع في أربع و مجلدات، والكتاب مازال مفقودا.
5- صبابة المشتاق في المدائح النبوية
وهو ديوان في المدائح النبوية، في مجلد.
6- ممالك عباد الصليب
وهي رسالة وصف فيها المؤلف ملوك الفرنج، عباد الصليب في البر والبحر بإقليمي الشرق ومصر في أيام نور الدين زنكي، وأواخر الدولة العبيدية، ومنهم: ملك فرنسا وملك ألمانيا، كما وصف أحوالهما السياسية والاجتماعية. وأشار الدكتور الدروبي إلى أن الكتاب طبع في روما سنة 1883م، مع ترجمة إيطالية.
7- الدعوة المستجابة:
ويقع في مجلد واحد.
9- دمعة الباكي ويقظة الساهر
ورد ذكره بهذا العنوان في عدد من المصادر والمراجع ، وذكر ه الصفدي في مصنفه “ديوان الفصحاء وترجمان البلغاء” قال الصفدي: “قرأت على ابن فضل الله العمري جميع “يقظة الساهر ودمعة الباكي”، من لفظ منشئها المولى المالك المخدوم القاضي شهاب الدين جلال الرؤساء، إمام البلغاء، حجة أهل الإنشاء، قدوة الأدباء أبي العباس أحمد بن فضل الله كاتب السر الشريف بالأبواب العالية أدام الله الإبداع لقلمه، وشنف الأسماع بكلمه في ديوان الإنشاء الشريف بقلعة الجبل المنصورة في شهر شعبان المكرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة”.
10- وله عدة مؤلفات أخرى منها: ذهبية القصر في أعيان العصر، نفحة الروض، الآداب واللوازم، الشتويات، النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية، مختصر قلائد العقيان في محاسن من كان بالأندلس من الأعيان، دمية القصر، الدائرة بين مكة والبلاد، الإنشاء في صنعة التوقيع، سفرة السفرة، الكواكب الدرية في ترجمة ابن تيمية، كتاب الترسل في المكاتبات (قواعد المكاتبات).
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار
اكتسب ابن فضل الله العمري شهرته الجغرافية من موسوعته الكبرى التي تتألف من سبع وعشرين جزءًا، وتحمل هذه الموسوعة عنوان “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، الذي يعتبر من أهم ما وصل إلينا من التراث العربي الإسلامي على اعتبار أنه نتاج القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي. وهو كتاب موسوعي يشمل معظم علوم عصره، لذا يطلق عليه فؤاد سزكين: موسوعة جغرافية تاريخية بيوغرافية. ولكنها في الواقع أوسع وأشمل من هذا الوصف وهذا ما يظهر من خلال النظرة الأولى على هذا العمل التاريخي الضخم.
وشكل مصدرًا هامًا للتاريخ والعلوم والجغرافية البشرية لدرجة أن اعتمد عليه أحمد القلقشندي اعتمادا كبيرا. هذا وقد سبق ابن فضل الله العلامة ابن خلدون في تدقيق الأخبار التاريخية وتفحص مفاهيم العمران الحضري والمناخ وعلاقتهما بالسكان وبالتالي قام بالتأسيس لمنهج علم التاريخ، يقول ابن فضل بهذا الصدد في مقدمة كتابه مسالك الأبصار: “وإن في الأرض العبر، ولقد طالعت الكتب الموضوعة في أحوال الأقاليم وما فيها، فلم أجد من قنّن أحوالها، ومثّل في الأفهام صورها، لأن غالب تلك الكتب لا تتضمّن سوى الأخبار القديمة، وأحوال الملوك السالفة، والأمم البائدة، وبعض مصطلحات ذهبت بذهاب أهلها، ولم يبق في مجرّد ذكرها عظيم فائدة، ولا كبير أمر. وخير القول أصدقه، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
فاستخرت الله تعالى في إثبات نبذة دالَّة على المقصود في ذكر الأرض وما فيها ومن فيها: الأظهَر فالأظهر، والأشهر فالأشهر، وما لم أجد بُدًّا من ذكره في ذلك ومثله، وحالة كل مملكة، وما هي عليه، هي وأهلها في وقتنا هذا (القرن الثامن الهجري)، مما ضَّمه نِطاق تلك المملكة، واجتمع عليه طرفا تلك الدائرة، لأقرّب إلى الأفهام البعيدة غالب ما هي عليه أُمُّ كلّ مملكة من المصطلح والمعاملات، وما يوجد فيها غالبًا، لُيبصر أهل كلِّ قطر القطر الآخر. وبينته بالتصوير، ليُعرف كيف هو، كأنه قُدَّام عيونهم بالمشاهدة والعِيان. مما اعتمدت في ذلك على تحقيق معرفتي له، فيما رأيته بالمشاهدة، وفيما لم أره بالنقل ممَّن يعرِف أحوال المملكة المنقول عنه أخبارها، مما رآه بعينه أو سمعه من الثقات بأُذنه.
ولم أنقل إلا عن أعيان الثقات، من ذوي التدقيق في النظر، والتحقيق للرواية، واستكثرت ما أمكنني من السؤال عن كلِّ مملكة، لآمن من تغفُّل الغفلاء وتخيُّل الجهالات الضالَّة، وتحريف الأفهام الفاسدة، فإن نقلت عن بعض الكتب المصنّفة في هذا الشأن، فهو من الموثوق به فيما لا بد منه، كتقسيم الأقاليم، وما فيها من أقوال القدماء، واختلاف آراء الحكام، إلى غير ذلك من غرائب وعجائب، وأخبار ملل ودول، وذكر مشاهير أعلام، وتاريخ سنين وشهور وأيام، مما هو مسرح أمل، ومطمح ذي عمل، لأُجمِّل به كلامي، وأكمِّل به نقصي، وأتمِّم به بهجة النظر، ورونق الصفحات، كالطراز في الثوب، والخال في الخدّ، لا لأكثِّر به حجم الكتاب. ولم أقتصر بذكر الأقاليم، عند ذكري الممالك، بل أذكر ما اشتملت عليه مملكة كل سلطان، جملة لا تفصيلًا.
ولم آل جهدًا في تصحيح ما كتبته بحسب الطاقة، من غير استيعاب ولا تطويل. ولم أقصد في المعمورة سوى الممالك العظيمة، ولا خرجت من جهاتها عن الطريق المستقيمة، اكتفاء بالحقّ الواضح، والصدق الظاهر، مما اتّصلت بنا حقيقة أخباره، وصحَّت عندنا جليَّلة أحواله.
وقنعت بما بلغه مُلك هذه الأُمَّة، وتمَّت بكلمة الإسلام على أهله النعمة، ولم أتجاوز حدّها، ولا مشيت خطوة بعدها، إلا ما جرَّه سياق الكلام، أو طارح به شُجون الحديث، مما اندرج في أثناء ذلك، أو اضطرَّت إليه تعريجات السالك، أو اقتضاه سبب، أو دخل مع غيره في ذمَّه حسب.
وأوّل ما أبدأُ بالمشرق، لأن منه يتفتح نُوّار الأنوار، وتجري أنهار النهار. إلى أن أَختمه بنهاية المغرب، إلى البحر المحيط، لأنه الغاية، وإليه النهاية. إلا فيما لم أجد بُدًّا من الابتداء به من المغرب إلى المشرق، كتخريج الأقاليم، لابتداء الأطوال من الجزائر الخالدات بالبحر الغربيّ، أو ما هذا حكمه، أو وقع عليه قسمه.
وقطعت فيه عمر الأيّام والليالي، وأثبتُّ فيه بالأقلام أخبار العوالي، وشُغلت به الحين بعد الحين، واشتغلت ولم أسمع قول اللاَّحِين، وحرصت عليه حرص الضّنين، وخلصت إليه بعد أن أجريت ورائي السنين وسمّيته: “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، وفهرست ما تضمَّنه وجملته قسمان: القسم الأول في الأرض، القسم الثاني في سكان الأرض”.
ولقد سلك ابن فضل الله العمري في سفره هذا مسلكًا فريدًا فأبدع فيه، وإن موسوعته هذه تعدّ من الجانب الأدبي وسعة معلوماتها وشموليتها سفرًا قيمًا. شرع العمري في تأليفه بعدما اعتقل وصودرت أمواله، أثناء الإقامة الجبرية التي فرضها عليه الناصر بن قلاوون سنة 738هـ بسجن القلعة والتي دامت حتى 740هـ ومات سنة 749هـ بالحمى بدمشق من غير أن يتمه.
ينقسم الكتاب إلى قسمين. الأول في الأرض، والثاني في أهل الأرض والأقوام المختلفة. وينقسم القسم الأول بدوره إلى قسمين أيضًا، وقد استخدم العمري له كلمة “النوع” الفريدة، ولعلها في قبال كلمة “الفن” التي استعملها النويري.
النوع الأول: في ذكر المسالك، ولعله استخدم هذا العنوان بمعناه الوسيع الذي يشمل الجغرافيا العامة، وفيه خمسة أبواب.
الأول: في أبعاد الأرض وأوضاعها، والثاني: في الأقاليم السبعة، والثالث: في البحار وما يتعلق بها من مسائل وقد تحدث فيه عن القنباص (البوصلة) أيضًا، الرابع: في القبلة وعلاماتها، والخامس: في الطرق.
النوع الثاني: في ذكر الممالك وفيه خمسة عشر بابًا، فيتحدث فيه بالترتيب من الشرق إلى الغرب عن البلدان والممالك التالية: الهند، بيت جنكيز خان، الجيل، الجبال، أتراك الروم (آسيا الصغرى) ، مصر والشام والحجاز، اليمن، المسلمين بالحبشة، والسودان، مالي، جبال البربر، إفريقية، برّ العدوة (المغرب)، الأندلس، العرب المعاصرين وأماكنهم.
القسم الثاني: في أهل الأرض والقبائل والأقوام المختلفة وفيه أربعة أنواع:
الأول: الذي يبدو أنه مرحلة انتقالية، يقارن بين الشرق والغرب ويتحدث فيه عن الطبيعة والحيوان وطوائف العلماء، الثاني: في الأديان المختلفة، الثالث: في طوائف أهل الدين، والرابع: في التاريخ وفيه بابان، الأول: في الحكومات قبل الإسلام، والثاني: في الحكومات بعد الإسلام.
وقد اعتمَد العمري على أكثر من منهج في تأليف الكتاب، منها:
أوَّلها: منهج الرواية بالمشاهدة والرؤية، وهذا فيما يتعلَّق باستعراضه لأحداث ووقائع عصره في ممالك مصر والشام والحجاز، وفي منهجه هذا يتحدَّث حديثَ الخبير المتخصِّص.
ثانيها: منهج الرواية بالسماع، وهذا قائم على سماع رواية الذين شاهَدوا تلك البلاد، واطَّلعوا على أخبارها من التجار والزُّوَّار.
ثالثها: منهج النقل عن المتون السابقة، مثل تاريخ الطبري وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله، ووفيات الأعيان لابن خلكان وغيرهم. وفي منهجه هذا، فإنه يذكر عادة اسم المؤلف أو اسم الكتاب الذي أخَذ عنه، ومن العجب أنه كان يُثبت أسماء كتب مكتوبة باللغة الفارسية، ويتحدَّث عن مؤلفين ألَّفوا كتبًا بالفارسية.
ولعل الدراسة المتأنية لهذه الموسوعة خير إحياء لذكرى هذا العالم الجليل والمؤرخ الكبير. وقد تكون نتائج الدراسات القادمة إجابة على سر إهمال وربما استبعاد هذا المصدر التراثي والتاريخي العملاق، ونسيان العبقرية التي كانت وراء تجميعها وتصنيفها قبل تأليفها.
وفاة ابن فضل الله العمري
يذكر ابن كثير أن ابن فضل الله العمري قد عمَّر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية شرقيها ليس بالسفح مثلها، وقد قضى بقية حياته مقيما فيها. ويقول الصفدي: “ولما وقع الطاعون بدمشق سنة 749هـ قلق العمري، وهمع وزمع وتطاير كثيرا، وراعى القواعد الطبية، وانجمع عن الناس وانعزل”.
وراودته فكرة الحج، فاشترى ما يلزمه للرحلة إلى بلاد الحجاز، ولكنه عدل عن ذلك، وقرر التوجه إلى القدس، وأخذ معه زوجته وولديه، ولكن زوجته ماتت في القدس فدفنها، وقفل راجعا إلى دمشق، وأصيب بحمى، وما لبث أن توفي يوم عرفة من شهر ذي الحجة سنة 749هـ / 1349م. وأضاف المترجمون له أنه توفي بداره داخل باب الفراديس، وصلى عليه بالجامع الأموي، ودفن بسفح جبل قاسيون مع أبيه وأخيه من اليغمورية، وذكر بعضهم أنه دفن بتربتهم بالصالحية، وكانت جنازته حافلة.
وذكر ابن إياس الحنفي أن وفاته كانت سنة 755هـ، وأما ابن العراقي فجعلها سنة 777هـ، وجعلها الأب أنستانس الكرملي سنة 748هـ. وقد شذ الدكتور شوقي ضيف عن إجماع المؤرخين، فذكر أن العمري توفي في مكة. وذكر ابن كثير أن العمري:” مات وليس يباشر شيئا مما كان عليه في السابق من رئاسة وسعادة وأموال جزيلة، وأملاك ومرتبات كثيرة”.
يقول ابن إياس الحنفي: “وقد رثي نفسه قبل أن يموت بهذين البيتين وجدا مكتوبين في ورقة في دواته، بخط يده، وهما قوله:
قلت لأقلامي اكُتبي وانطقي *** فقالت الأقلام: واسوأتاهْ
وشقَّت الألسن من حزنها *** وولولتْ، واسودَّ وجه الدَّواهْ
وقد رثى الصفدي ابن فضل الله العمري في قصيدة بلغت عدتها عشرين بيتا، جعل ألفاظها تبكيه وقوافيه تنوح عليه، أثنى فيها على خلقه وشمائله وعلمه وشعره ونثره. ومطلع القصيدة:
اللهُ أكبر يا بن فضلِ اللهِ *** شغلتْ وفاتُك كلَّ قلبٍ لاه
وختمها بقوله:
لا زال جدُّك في المبادئ صاعدًا *** رتبًا سعادُتها بغير تناهي
___________________
المصادر والمراجع:
– ابن فضل الله العمري: التعريف بالمصطلح الشريف، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1988م.
– ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، (ج12) تحقيق: إبراهيم صالح، دار المكتبة الوطنية، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002 م، (ج1) تحقيق: طلال زهير هاشم، وعلي زهير هاشم، مركز زايد للتراث والتاريخ، العين – الإمارات العربية المتحدة، 1429هـ / 2008م. “القسم الخاص بمملكة اليمن، حققه وقدم له: أيمن فؤاد سيد، دار الاعتصام للطبع والنشر والتوزيع، 1974م. (ج3 : ج27) تحقيق: أحمد عبد القادر الشاذلي، الناشر: المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة: الأولى، 1423هـ.
– الصفدي: أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق: الدكتور علي أبو زيد، الدكتور نبيل أبو عشمة، الدكتور محمد موعد، الدكتور محمود سالم محمد، قدم له: مازن عبد القادر المبارك، الناشر: دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، دار الفكر، دمشق – سوريا، الطبعة: الأولى، 1418هـ / 1998م.
– الصفدي: الوافي بالوفيات، أجزاء مختلفة لعدة محققين، نشرفرانزشتاينر – فيسبادن- ألمانيا، والمعهد الألماني للأبحاث.
– السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، تحقيق: فرانز روزنثال، ترجمة صالح أحمد العلي، مطبعة العاني، بغداد، 1963م.
– ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور،تحقيق: محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1982م.
– ابن كثير: البداية والنهاية، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407هـ / 1986م.
– ابن حجر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية – صيدر اباد/ الهند، الطبعة: الثانية، 1392هـ/ 1972م.
– شعر ابن فضل الله العمري، جمع وتوثيق ودراسة: علي محمد علي غريب، رسالة ماجستير، جامعة الخليل، كلية الدراسات العليا – قسم اللغة العربية، 1429هـ / 2008م.
-53 الشعر العربي أيام المماليك ومن عاصرهم من ذوي السلطان – د.خالد إبراهيم يوسف، دار
النهضة العربية، ط 1، بيروت، 2003 م.
– القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، شرحه وعلق عليه: محمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1987م.
– ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية، تحقيق: الحافظ عبد العليم خان، دار النشر: عالم الكتب – بيروت، الطبعة: الأولى، 1407هـ.
– الكتبي: فوات الوفيات، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1951م. وتحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1973 – 1974م.
– المقريزي: المقفى الكبير، تحقيق: محمد اليعلاوي، المقفى الكبير، دار الغرب الإسلامي، ط 1، بيروت، 1991م.
– حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مطبعة إستانبول، 1943م، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1419هـ / 1999م.
– كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، نقله إلى العربية: صلاح الدين عثمان هاشم، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، 1957م.
-كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة محمود فهمي حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995م.
– عمر رضا كحالة: معجم مصنفي الكتب العربية في التاريخ والتراجم والجغرافيا والرحلات،
مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 1406هـ / 1986م.
– حسن محمد عبد الهادي: ترجمة ابن فضل الله العمري (شهاب الدين أحمد بن يحيى)، مجلة جامعة الأزهر بغزة، سلسلة العلوم الإنسانية، 2010 ، المجلد (12)، العدد (1)، ص81 – 132.
– آزاد أحمد علي: مفتي دمشق ابن فضل الله العمري، موقع الحوار المتمدن، 20 سبتمبر 2008م.