ملخص المقال
- يعتبر الطبيب الأندلسي ابن زهر عبقرية فذة في مجال العلوم الطبية، وكان لأعماله وإسهاماته أثر كبير في تطور الطب في أوربا فيما بعد
في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش ظلمات من الجهل والتخلُّف، كان المسلمون في الأندلس يعيشون حياة الازدهار والرقي، وقد شهد القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي تَقَدُّمًا فريدًا في كافَّة العلوم والمجالات، وخاصة علوم الفلك والطب والفلسفة، حتى غدا كل فيلسوف طبيبًا، وكل طبيب فيلسوفًا، وغدت بلاد المسلمين في الأندلس مقصد العلماء وطلاب العلم من وسط أوربا وجنوبها، ومن البقاع المتاخمة لبلاد الأندلس في ذلك الوقت.
وكان من بين هؤلاء النابغين -الذين كانت لهم آثار واضحة في علم الطب، وكانت أعمالهم مقصدًا للعلم والدراسة- عالمٌ أندلسي، ورث الطب عن والده، وورث ابنه الطب عنه، وهو أبو مروان عبد الملك بن زُهر الأندلسي، الذي يُعتبر أعظم معلِّم في الطب الإكلينيكي بعد الرازي، كما تَدِين له الجراحة بأول فكرة عن جراحة الجهاز التنفسي، كما أن له أبحاثًا كثيرة عن الأطعمة والأدوية والكسور، وغير ذلك الكثير.
نسب ابن زهر ومكانة أسرته
وُلِدَ أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء، المعروف بابن زهر الأندلسي الإشبيلي الإيادي سنة (464-557هـ/ 1072-1162م)، وينتسب أبو مروان عبد الملك بن زهر إلى أسرة أندلسية لمعت في ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيمائية، بل أيضًا العلوم الشرعية الإسلامية؛ فكان جدُّه محمد بن مروان بن زهر (ت 422هـ/ 1031م) شيخ زمانه وعالم عصره، وهو أول مَن رفع من شأن هذه العائلة؛ فقد كان عالمًا فقيهًا جليلاً في بلاد الأندلس. ثم خلفه في العلم ابنه أبو مروان عبد الملك بن محمد بن زهر، الذي نبغ في الفقه إلاَّ أنه كان طموحًا فاشتغل بالطب؛ حيث رحل إلى القيروان فتتلمذ على يد كبار أطبائها، ثم رحل بعد ذلك إلى القاهرة فنال شهرة واسعة في مجال الطب، إلاَّ أنه عاد إلى إشبيلية حتى توفي سنة (471هـ/ 1078م)، فخلفه في الشهرة ابنه أبو العلاء، واسمه زهر بن عبد الملك بن محمد بن زهر، وقد ذاع صيته هو أيضًا في الطب مثل أبيه، وقد تدفَّق الطلاب عليه من كل حدبٍ وصوب؛ لشهرته وتبحُّره في العلوم الطبية، وقد قرَّبه إليه الأمير يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وقد لزم بلاد الأندلس حتى وافاه الأجل سنة (525هـ/ 1131م)، وكان من مؤلفاته: كتاب الخواص، وكتاب مجريات الطب، وكتاب التذكرة، وكتاب الأدوية المفردة، وكتاب النكت، وغيرها من الكتب والرسائل. ثم جاء بعد ذلك الابن الذي نال شهرة أبيه وجدِّه، وملأ الدنيا بعلمه، إنه أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر، الذي يُعْتَبَرُ أول من خصَّص كل وقته في الطب[1].
فكانت أسرة بني زهر بذلك مفخرة الإنسانية؛ لما قَدَّمَتْ من مؤلفات ومبتكرات طبية أدهشت العلماء في الشرق والغرب, واشتهرت في جميع أنحاء المعمورة, وهو ما كان له أبعد الأثر في تشكيل كيان أبي مروان عبد الملك بن زهر العلمي، الذي ورث مهنة الطب من أبيه، وأورثها لأبنائه وأحفاده، وكان هو أفضل تلميذ لأمهر معلم.
هذا، ولم يكن ابن زهر بمعزل عن حُكَّام عصره (المرابطين)؛ فقد خدم الملثَّمِين، ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئًا كثيرًا[2].
ابن زهر .. مؤلفات وإبداع
ترك لنا ابن زهر ثروة علمية ناضجة، تنمُّ عن سعة أفقٍ وكثرة اطلاع، ولعل من أهم مؤلفاته كتابه (التيسير في المداواة والتدبير)، والذي يُعَدُّ من خير ما أَلَّف المسلمون في الطب العلمي؛ فقد تحرَّر فيه من كل ما تقيَّد به غيره من آراء نظرية، وأخذ فيه بما تُؤَدِّي إليه الملاحظة المباشرة، وفيه وصف التهاب التَّامُور، والتهاب الأذن الوسطى، وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكُلى، وفتح القصبة الهوائية[3].
وفي تأليف هذا الكتاب قصة مهمة توقفنا على ما كان بين علماء المسلمين من تعاون وتكامل، وما يمكن أن نسميه بـ “العمل في فريق”!
فإنه حين ألف ابن رشد كتابه (الكليات) -والتي تعود شهرته في الطب إليه، وقد جمع فيه النظريات العامة لعلم الطب، والمبادئ الأساسية لعلم الأمراض- رأى أنه في حاجة إلى كتاب آخر يكمله، ويكون مقصورًا على الجزئيات؛ لتكون جملة كتابيهما ككتاب كامل في صناعة الطب.. ومن ثَمّ قصد ابن رشد أبا زهر (شخصية الدراسة)، وكانت بينهما مودة، ورجاه بأن يقوم بهذه المهمة.
إقرأ أيضا:ابن الكحال – مؤسس طب العيونوقد تم له ما أراد، حيث ألف ابن زهر كتاب (التيسير في المداواة والتدبير)، وجاء موسوعة طبية عظيمة، ظهرت فيه براعة ابن زهر وتضلعه في الصناعة الطبية!
ولذلك نجد ابن رشد يقول في آخر كتابه (الكليات): “فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء عرض من الأعراض الداخلة على عضو من الأعضاء، وهذا وإن لم يكن ضروريًّا؛ لأنه منطوٍ بالقوة فيما سلف من الأقاويل الكلية ففيه تتميم ما وارتياض؛ لأنَّا ننزل فيها إلى علاجات الأمراض بحسب عضو عضو، وهي الطريقة التي سلكها أصحاب الكنانيش (الدفاتر)، حتى نجمع في أقاويلنا هذه إلى الأشياء الكلية الأمور الجزئية؛ فإن هذه الصناعة أحق صناعة ينزل فيها إلى الأمور الجزئية ما أمكن، إلا أنا نؤخر هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغًا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء، وأحب أن ينظر بعد ذلك إلى الكنانيش، فأوفق الكنانيش له الكتاب الملقَّب بـ(التيسير)، الذي ألفه في زماننا هذا أبو مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته، فكان ذلك سبيلاً إلى خروجه”[4].
ومن هنا تظهر قيمة العمل الجماعي في الوقوف على ما هو أهم ومطلوب، ومِن ثَم تكميل النقص، وإثراء العلم، وتَقَدُّم الأمة!
إقرأ أيضا:ابن سينا – موسوعة العلم والعلوموغير موسوعته التيسير أَلَّف ابن زهر كتاب (الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد)، والذي علَّق عليه أحد المستشرقين فقال: “إنه عبارة عن تذكرة لمن سبق له أن قرأ كتبًا أخرى في الطب، فالمؤلِّف لا يتكلَّم مع العموم، ولكن مع طبيب مثله، وقد أوضح بكيفية عملية التفريق بين الجذام، والبهاق، ومسألة العدوى، وقد تحدَّث ابن زهر في هذا الكتاب عن أطباء عصره، فذكر أنهم يختلفون في الاعتناء بالمرضى، وأن الناس يجهلون الطب؛ لأن الطبيب الذي يستشيره مريض من المرضى، يبادر فيصف له دواءً من الأدوية دون تمحيص للحالة في جميع خواصِّها”[5].
وأَلَّف ابن زهر أيضًا كتاب (الأغذية)، وقد أهداه لمحمد عبد المؤمن بن علي أمير دولة الموحدين، وألّف كذلك كتاب (الجامع في الأدوية والمعجونات)، و(تذكرة في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه)، وهو عبارة عن رسالة ألَّفها لابنه أبي بكر، وتعتبر أول ما تعلَّق بعلاج الأمراض، كما أن له تصانيف كثيرة تتعلَّق بالكُلى والبهاق والحصى[6].
وعلى هذا يُعَدُّ ابن زهر من الأطباء الذين كان لهم أثر واضح بما تركه من ثروة علمية كبيرة، ولم تكن إسهاماته في المجال النظري فقط، بل تَعَدَّت ذلك إلى الميدان العملي، رغم أنه كان يتحاشى إجراء العمليات الجراحية الكبرى بنفسه؛ لأن رؤية الجروح تثير في نفسه ضعفًا يصل إلى حالة الإغماء، ولكنه كان يسهم مساهمة فعَّالة في تحضير الأدوية[7].
ابن زهر.. منهج علمي وإنجازات عظيمة
في منهجه لدراسة الطب اعتمد ابن زهر على التجربة والتدقيق العلمي، وتوصَّل بذلك إلى أمراض لم تُدرس من قبلُ، وقد درس أمراض الرئة، وأجرى أول عملية في القصبة المؤدية إلى الرئة، ويعتبر ابن زهر من أوائل الأطباء الذين اهتمُّوا بدراسة الأمراض الموجودة في بيئة معينة، ويعتبر من أوائل الأطباء الذين بيَّنُوا قيمة العسل في الدواء والغذاء، وعلى الرغم من سعة معارفه، إلاَّ أن تخصُّصه في العلوم الطبية جعله يضيف أبحاثًا مهمة؛ منها ما يتعلَّق بالأمراض الباطنية والجلدية وأمراض الحمى والرأس؛ مما جعله فريدًا بين أقران عصره.
ويمكن تلخيص إنجازات ابن زهر في المجال الطبي فيما يلي:
1- كان يعتقد أن التجربة وحدها هي التي تُثْبِتُ الحقائق وتُذْهِبُ البواطل.
2- كان ينصح طلابه أن لا يأخذوا دائمًا ما يقرءونه على غيرهم محمل الثقة واليقين، بل لا بُدَّ من التجربة.
3- عالج حالات الشلل الذي يُصيب البلعوم.
4- أول من وصف خُرّاج الحيزوم والتهاب التامور الناشف والانسكابي، وكان دقيق الوصف للحوادث السريرية[8].
5- أول من أشار بعملية شقِّ الحجاب.
6- يعود له الفضل في إدخال المليِّنات بدل المسهلات الحادَّة.
ومن أهم ما يميِّز ابن زهر أنه لم يأخذ آراء الآخرين على أنها مسلمات غير قابلة للتعديل، فإن آراءه المخالفة لجالينوس -وخاصة آراءه التشريحية- لشاهدة على ذلك، وقد ساعدت هذه الآراء على التخلُّص من تهويمات الجالينوسية، ومن الخضوع المشين الذي طبع عصورًا برُمَّتِها بطابع الجمود المزري[9].
هذا، وقد تُرجمت كتب ابن زهر إلى اللاتينية، وخاصة كتابه (التيسير)؛ حيث تُرجم إلى اللاتينية سنة (895هـ/ 1490م)، وكان له أثر كبير على الطب الأوربي حتى القرن السابع عشر، كما تُرجم كتابه في الأغذية والأدوية.
وقد امتدح جورج سارتون أبا مروان بن زهر في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم)، فقال: “إن أبا مروان تميَّز عن غيره في حقل الطب في شرق وغرب الدولة الإسلامية، بل إنه أعظم طبيب في عصره في العالم أجمع”[10].
وهكذا كان الطبيب الأندلسي ابن زُهر عبقرية فذَّة في مجال العلوم الطبية، وكان لأعماله وإسهاماته أثر كبير في تطور الطب في أوربا فيما بعد.
د. راغب السرجاني