ليس للمسلم أن يعبد الله تعالى إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُمِرْنا بالاتباع ونُهينا عن الابتداع، وذلك لكمال دين الإسلام، والاغتناء بما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}(المائدة: 3)، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران:31)، وقال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر: 7). قال ابن كثير: “أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر”. وقال السعدي: “وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تَحِلّ مخالفته”.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) رواه مسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطبتِه: (..إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّدٍ وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..) رواه النسائي وصححه الألباني. قال ابن تيمية:”وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع .. وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسوله المُبّلِّغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة”.
إقرأ أيضا:فمن رغب عن سنتي فليس مني
مدار الأمر في فلاح العبد ونجاته ليس على كثرة العبادة والتشدد فيها، أو التهاون بها والتفريط فيها، ولكن على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم دون تفريط أو مغالاة، أو زيادة أو نقصان، فالسنة النبوية الشريفة أصلها التوازن والتوسط والاعتدال، والمواقف النبوية من سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك كثيرة، منها:
ـ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يُهادى بين ابنيه فقال: (ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ، وأمره أن يركب) رواه البخاري. وأما المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لك من الأجرِ على قدْرِ نَصَبِك (تعبك) ونفقتك): هذا إذا كانت المشقة ملازمة للعبادة، بحيث لا يمكن القيام بالعبادة إلا مع تحمل هذه المشقة، فكلما زادت المشقة زاد معها الأجر والثواب ـ كالصيام مثلاً ـ، قال النووي: “قوله صلى الله عليه وسلم: (عَلى قَدْر نَصَبِك ونفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يَكْثُر بِكَثْرة النَّصَب وَالنَّفَقة, والمراد النَّصَب (التعب) الَّذِي لا يَذُمّه الشَّرْع, وكذا النفقة”.
ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، قال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الخطابي: “قد تضمن نذره نوعين الطاعة والمعصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منها من طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل، وذلك أن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قربة إلى الله تعالى”. وقال ابن تيمية: “قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون).. مثل حديث: أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم .. فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رُفِعَت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أُرِيد بنا فيه العسر”.
إقرأ أيضا:ارجع فصل فإِنك لم تصلـ روى البخاري ومسلم عن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال: (نذرَتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته، فقال: لِتمشِ ولْتركبْ) رواه مسلم.
ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت (كسلت وضعفت عن الصلاة) تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) رواه البخاري.
لما نزل قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(الفتح:2)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد نزلت عليَّ آية أحبّ إليَّ مما على الأرض، ثمَّ قرأَها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: هنيئاً مرياً يا رسول الله، قد بيَّنَ اللَّهُ لَكَ ماذا يفعل بِك، فماذا يفعل بنا؟! فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا}(الفتح:5)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقد ظَنَّ بعض الصحابة أَن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قليلة لكونه قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر كما قال الله تعالى، فلا يحتاج بعدئذ إلى مزيد من العبادة، أَما هم فليس الشأن فيهم كذلك، ولذا ينبغي عليهم أن يشددوا على أنفسهم، ويُشَمِّروا عنْ ساعدِ الجدِّ في العبادة والطاعة، ولو كان ذلك على حساب مجاوزة هديه وسنته صلى الله عليه وسلم، اجتهاداً منهم رضوان الله عليهم رجاء أن يغفر الله لهم، فصحَّح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولمن يأتي بعدهم هذا الخطأَ، وذلك من خلال مواقف كثيرة بين لهم فيه: أَنّه ليس للمسلم أن يعبد الله تعالى إلا على هديه وسنته وبما شرعه صلوات الله وسلامه عليه دون تفريط أو إفراط.
وهديه صلى الله عليه وسلم في العبادة التي حسبها بعض الصحابة قليلة لم يكنْ نتيجة لغفران ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر، وإنِّما هو سنته المبنية على الوسطية ـ دون تقصير أو مغالاة ـ التي هي من خصائص سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم وربَّى عليها أصحابه، والتي جاء الإسلام بها كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}( البقرة: 143). وعن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط (جمع دون العشرة من الرجال) إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها (استقلوها)، فقالوا: وأين نحن من النّبي صلى الله عليه وسلم، قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب (أعرض استهانة وزهدا فيها, لا كسلا) عن سنّتي فليس منّي) رواه البخاري.
المسلم يعبد الله تعالى بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هديه وسنته، والسنة النبوية ـ قوله وفعله وتقريره صلوات الله وسلامه عليه ـ هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها سَعِدَ ونجا، ومن تخلف عنها شقِيَ وغرق، عن الزُّهْرِيِّ قال: “كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة”، وقال مالك: “السُنَّة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق”. وقال ابن قدامة: “وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم”.