يقول بعض الكتّاب: ” إن الإيمان بالله لم يأت نتيجةً لبحثٍ علمي، أو تحليل منطقي، وإنما جاء عن طريق أن إنساناً ما وهو النبي قال للناس: إن هناك إلهاً وهذه هي صفاته، وهذه هي أحكامه وتشريعاته، فالمؤمن لم يتوصل إلى ذاك ” الله ” بمحض عقله، بل إن إيمانه جاء عن طريق تصديق النبي فيما قاله. إذاً الإيمان ما هو إلا نوع من تصديق شخص ما وليس أكثر من ذلك..” ا.هـ ،بهذا التبسيط الساذج، يقرر الملاحدة قضية الإيمان بالله، ليس هناك من دليل على وجوده، سوى شخص جاء وأخبر عنه، وأمر الناس بطاعته، فالإيمان لا يعدو أن يكون تصديق شخص ما، لا أقل ولا أكثر، فهل رأى أحدٌ سخرية من العقل والمنطق كهذه السخرية !!
إن الإيمان بالله عز وجل خالق الوجود ومسيّره، أعظم وأجل من أن يقال فيه هذا، ووجوده أعظم من أن يقتصر في الاستدلال عليه على خبر النبي رغم أهميته وعظم دلالته، بل أدلة وجوده أوسع وأعمق، فهي تتسع لتشمل كل ذرات الكون من فرشه إلى عرشه، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو ينادي بالدلالة على خالقه، وهي دلالة لا تقتصر على إثبات الوجود فقط، بل تتسع لتدل على صفات هذا الخالق العظيم، من العلم والحكمة والإرادة والقدرة وغيرها.
إقرأ أيضا:الرد على من أنكر البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيلورغم سعة هذه الدلالات وعظمتها، فقد وجد من شواذ البشر، من زعم أنه لا إله، وأن الحياة مادة صماء لا تعقل ولا تنطق، وهي مع ذلك قد أوجدت نفسها بنفسها عن طريق التلقائية والمصادفة !! وهي ذاتها تسيَّر نفسها عن طريق نظام الطبيعة وقوانينها، دون أن يتدخل أحد لا في إيجادها ولا في تسييرها، في منطق يعجز العقل عن تصوره، إذ كيف لمادة صماء أن توجد نفسها، فضلا على أن تهب الحياة لغيرها ؟!! كيف ؟! والعقل قاضٍ بأن الموجود لابد له من موجد، وأن المخلوق لا بد له من خالق، كما نطق بذلك لسان الفطرة عند أعرابي، عندما سئل عن دليل وجود الله ؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.
وفي كل شيء له آية *تدل على أنه واحد
ومع وضوح دلائل وجود الخالق سبحانه، إلا أننا نرى أن لا بد من الإتيان على ما يتشبث به الملاحدة من شبه بالنقض والإبطال، ليعلموا أن ليس معهم من العلم شيءٌ يستندون إليه في إنكار خالقهم ورازقهم، فمن شبهات الملاحدة:
الشبهة الأولى ، قولهم: إن العقول عاجزة عن تصور كنه هذا الإله وحقيقته، وما عجزت العقول عن إدراكه وتصوره فهذا دليل على عدم وجوده.
إقرأ أيضا:شبهات حول زواج النبي صلى الله عليه وسلمونحن نجيب على هذه الشبهة بقولنا: إن المقدمة الأولى من هذه القضية صحيحة بلا شك، فالعباد قاطبة عاجزون عن معرفة حقيقة هذا الإله العظيم، ومن مأثور كلام أهل العلم في ذلك، قولهم: “كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، وعجزك عن درك الإدراك إدراك، والبحث في كنه ذات الله إشراك “، لكن المقدمة الثانية غير صحيحة، إذ ليس كل ما عجزت العقول عن معرفة حقيقته وكنهه عدم، وإلا للزم أن تنكر العقول كثيرا من أسرار هذا الكون لعجزها عن معرفة حقيقتها وكنهها، فقد وقف العلماء عاجزين عن معرفة حقيقة المادة التي بين أيديهم، وهم يرونها بأعينهم، ويذوقونها بألسنتهم، ويشمونها بأنوفهم، ويصرفونها في طرق الحياة والعيش . فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يصل بعقله إلى معرفة حقيقة الله تعالى؟ وهل يطمع الإنسان الذي لا يعرف كيف يعرف ؟ ولا يدرك كيف يدرك ؟ ولا يعقل كيف يعقل ؟ أن يعقل حقيقة الله تعالى !!.
إن العلم لا يزال عاجزاً عن معرفة الطريقة التي يتم بها الإدراك، والوسيلة التي يتم بها الاتصال بين المادة والعقل، والكيفية التي يتلقى بها العقل الروحاني الإحساس بالشيء المادي فيدركه، فهل يطمع بعد ذلك أن يعرف كنه ذات الله تعالى ؟.
إن عدم اقتداركم – أيها الملاحدة – على تصور حقيقة الله لا يعني استحالة وجوده، ويكفي العقول أن تستدل على وجود الله بآثاره من نظام وإتقان وإحكام في هذا العالم، أما التطلع إلى إدراك حقيقة ذاته، فهذا ما لا سبيل للإنسان إليه، وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الكبار، “روجر باكون ” : ” إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله “.
إقرأ أيضا:شبهات حول الشفاعهالشبهة الثانية قولهم: إن عقولنا لا يمكن أن تتصور حصول شيء من لا شيء، أي استحالة خلق المادة من العدم، فكيف يخلق الإله من العدم ؟ وجوابنا عن هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن قولهم لا يمكننا أن نتصور حصول شيء من لا شيء، مبني على قولهم بقدم المادة وأزليتها، وهذا عين المحال، إذ كيف للمادة الصماء أن توجد نفسها !! وإذا كنتم ادعيتم عجز العقول عن تصور خلق شيء من لا شيء، فإن العقول أعجز عن تصور قدم المادة وأزليتها، ذلك أن المادة لا يعقل أن تخلو من صورة تقوم بها، والعقل السليم يقطع بأن كل صورة تقوم في المادة هي حادثة لأنها تزول وتتغير، ولا يخفى أن كل ما يطرأ عليه العدم يستحيل عليه القدم .
الوجه الثاني: أن عجز العقول عن تصور حصول شيء من لا شيء، لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة وهي ثابتة، كعجزها عن تصور حقيقة المادة رغم أنها ملامسة مشاهدة، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم .!!
إن منشأ هذه الشبهة – إنكار الخلق من العدم – هو قياس التمثيل، فعندما رأوا أن المخلوق لا يمكن أن يصنع شيئا إلا من شيء آخر، نفوا أن يكون شيء مصنوعا من لا شيء، وإبطال هذا القياس بإيضاح الفرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء، أما الخالق فقدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) .
الشبهة الثالثة : قولهم لو كان نظام الكائنات مخلوقا من إله حكيم، لكان موضوعا بقصد وحكمة، ولكانت علامات القصد والحكمة تامة في كل شيء، إلا أننا نرى في العالم أشياء لا تنطبق على القصد والحكمة.
والجواب على هذه الشبهة: أن جهلنا بحكمة مخلوق أو نظام ما في هذا الكون، ليس مبررا على الإطلاق أن ننكر خالقه سبحانه، ذلك أننا نشاهد من أسرار الله في مصنوعاته الحكم الباهرة ولم تزل تظهر لنا يوما بعد يوم حكمة بعد أخرى، مما كان خافيا علينا دهورا طويلة، فليس عدم إدراكنا للحكمة يعني انتفاءها وعدم وجودها، فقد تظهر لنا في يوم من الأيام ، كما ظهر سواها .
وإذا تأملتم – أيها الملاحدة – قصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من الأمور المادية المشاهدة لنا، وقارنتم بين هذا العجز وبين قدرة الله العظمى وحكمته، لم تستغربوا اختفاء حكمة بعض الأشياء عن عقولنا، ورأيتم أن من الأولى قياس القليل النادر، مما لم تظهر حكمته، على الكثير المستفيض الذي لا يعد ولا يحصى من شواهد حكم الله الظاهرة في مخلوقاته، لا أن تتخذوا من هذا القليل النادر الذي خفيت حكمته دليلا على إنكار وجود الله الخالق.
الشبهة الرابعة ، قولهم: إذا كان لكل موجود موجد، ولكل مخلوق خالق فمن خلق الله ؟ والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن إيراد هذا السؤال خطأ بين، ذلك أن قدرة الله جل جلاله تتعلق بالممكنات لا المستحيلات، وأن يخلق الله إلها من المستحيلات بلا شك، فلا تتعلق به القدرة، ذلك أن هذا الإله الذي سيخلقه الله سبحانه سيكون مخلوقا، وإذا كان مخلوقا فبالضرورة لن يكون خالقا وبالتالي لا يصلح أن يكون إلها.
الوجه الثاني: أننا لو تنزلنا وقلنا بصحة السؤال، لأفضى ذلك إلى التسلسل، وهو محال عقلا، بيانه أننا إذا أجبنا على سؤال من خلق الله ؟ بالقول: إنه خالق آخر، فسوف يرد نفس السؤال على الخالق الآخر، فيقال من خلق الخالق الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وفي المحصلة سنكون قد ارتكبنا محالين عقليين: الأول نفي الخالق، والثاني: القول بتسلسل علل لا نهاية لها.
الإيمان والعلم والفلسفة :
كثيرا ما يستند الملاحدة في إنكارهم للخالق إلى الفلسفة والمنطق، ويحاولون أن يظهروا بمظهر الباحثين والمفكرين، ولكنهم في حقيقة الأمر من أجهل المخلوقات على الإطلاق، ذلك أن الدين والعلم والفلسفة كلها قد اتفقت على الإيمان بالله سبحانه، وأنه موجد الكون ومدبره، ولكن كما قال بعض الفلاسفة: القليل من الفلسفة يبعد عن الله، لكن الكثير منها يرد إلى الله، وقد اخترنا في خاتمة هذا المقال بعض مقولات لعظماء من الفلاسفة الذين نصوا على وجود الله سبحانه، والإيمان به:
يقول “أفلاطون”: ” إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة ”
ويقول “ديكارت”: “إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحسُّ في الوقت نفسه بوجود ذاتٍ كاملة، وأراني مضطرًّا إلى اعتقادي؛ لأنَّ الشعور قد غَرَسَتْه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحليَّة بجميع صفات الكمال؛ وهي الله”.
ويقول “أناكساغورس” أحد فلاسفة اليونان الأوائل: ” من المستحيل على قوة عمياء، أن تبدع هذا الجمال، وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد، بصير حكيم ”
ويقول ديكارت أيضاً: ” أنا موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟ إنني لم أخلق نفسي، فلا بد لي من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود، وغير مفتقر إلى من يوجده، أو يحفظ له وجوده، ولا بد أن يكون متصفا بكل صفات الجمال. وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء ”
ويقول باسكال: ” إن إدراكنا لوجود الله، هو من الإدراكات الأولية، التي لا تحتاج إلى جدل البراهين العقلية، فإنه كان يمكن أن لا أكون، لو كانت أمي ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود، ولست دائما ولا نهائيا، فلا بد من كائن واجب الوجود، دائم لا نهائي، يعتمد عليه وجودي، وهو الله الذي ندرك وجوده إدراكا أوليا، بدون أن نتورط في جدل البراهين العقلية، ولكن على الذين لم يقدر لهم هذا الإيمان القلبي أن يسعوا للوصول إليه بعقولهم..”
وبهذه الثلة من أقوال هؤلاء الفلاسفة وبما سبق من أدلة عقلية جلية، يتبين أن الإيمان بوجود الخالق قضية ضرورية بديهية، مركوزة في النفس والعقل، لا يخالطها ريب ولا شك، ولا تحتاج لبرهان إلا لمن فسدت فطرته، والله الموفق والهادي إلى سواء لسبيل