إنها متقابلة: الإبصار والعمى – والسمع والبصر – والظلمة والنور – والظل الوارف والحر الشديد – حتى نصل إلى متقابلة الحياة والموت…
أ.د. عمرو شريف
قال تعالى: “وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ” (فاطر:19-22)
تطرح علينا هذه الآيات أقدر الأمثال تعبيراً عن المقابلة بين الهداية والإيمان وبين الكفر والضلال.
إنها متقابلة: الإبصار والعمى – والسمع والبصر – والظلمة والنور – والظل الوارف والحر الشديد – حتى نصل إلى متقابلة الحياة والموت.
وتُفصِّل بعض آيات القرآن الكريم هذه الآيات من سورة فاطر، وتنبهنا إلى المقصود بالعمى والصمم والظلمات والحر الشديد والموت. إنها مفاهيم تختلف عن عالم الشهادة البيولوجي الفيزيائي، إنها مفاهيم من عالم القلوب (عالم المعنى). ثم تعرج بنا إلى عالم الغيب، إلى يوم الحشر.
انظر إلى قول الحق عز وجل:”لهم قلوب لا يفقهون بها …” (الأعراف:179).
إن الداء هو داء القلب:
“أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحج:46)
إقرأ أيضا:الترجمة الدقيقة لقيم القرآن الكريم ودورها في عمارة الكون“وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (فصلت17).
فالعمى هو عمى القلب، كما أن الصمم والبكم هو صمم وبكم القلب
مثل الحياة والموت في القرآن.. مثل حياة القلوب ومواتها
“إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ” (الأنفال:22)
إن هذا الصمم والبكم يجعلهم كأسوأ الدواب.
إن الذي لا يهتدي إلى الحق هو معتل القلب[1]؛ فهو كالأعمى الذي لا يرى الشيء الظاهر الواضح لكل عين، وهو كالأصم الأبكم الذي لا يسمع ولا يعي ولا ينطق كالآخرين.
وإذا كانت هذه الصور تنتقل من هيئة حسية (في عالم الشهادة) إلى حقيقة معنوية في عالم المعنى، فإنها تعود لتظهر في هيئة حسية في عالم الغيب يوم القيامة:
“وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى” (طه:124-126)
لقد حُشر هذا الذي كان أعمى القلب والبصيرة في الحياة الدنيا وقد صار أعمى البصر في الحياة الأخرى. و نفس الشيء يقال على الصم والبكم، فتصيب حواس من أعرض عن ذكر الله في الآخرة ما أصاب قلوبهم في الدنيا.
إقرأ أيضا:حياة النحل.. إبداعٌ يفوق تصور البشروصورة أخرى من الصمم والعمى تنقلها لنا سورة البقرة:”أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (البقرة:19-20).
ففي عالم الشهادة يقابلنا نمط من الناس إذا سمع صوت صاعقة وضع طرفي إصبعيه السبابتين في أذنيه خشية الموت، ويتخبط بعض هؤلاء ويحتار، فيشرع في المسير في ضوء البرق المصاحب للصاعقة، ويتوقف عن السير إذا أظلمت.
وينقل القرآن الكريم هذه الصورة من “عالم الشهادة” إلى “عالم المعاني”؛ فالمنافقون يعتبرون منهج الإسلام كالصاعقة، ويعتبرون تكاليفه من صلاة وصوم وجهاد بمثابة الظلمات والرعد والبرق.
وكلما حصل لهم نفع من منهج الإسلام (كالغنائم وعصمة الدماء والأموال) رغبوا في الدين (كلما أضاء لهم مشوا فيه). وإذا لم يجدوا هذه المنافع (أظلم عليهم) كرهوا الإيمان.
إقرأ أيضا:ويضرب الله الأمثال.. أمثلة الجبال في القرآن ج5إنها صورة تُشبِّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بحقيقة الدين بهؤلاء الذين لا يرون طريقاً ولا يهتدون، ويظنون أن تجاهلهم لتعاليم الدين سيغنيهم.
سبحان ربي..
الهامش:
[1] – المقصود من “القلب” في المنظور الإسلامي هو “المنظومة المسئولة عن النشاطات العقلية والشعورية والإيمانية” ولهذه المنظومة تعلق ما بالقلب المادي في صدر الإنسان، وقد اكتشف العلم الحديث بعضاً من جوانب العلاقة بين القلبين، ومازال الأمر في حاجة إلى المزيد من البحث. راجع كتابنا ” رحلة عقل ” الفصل السادس ص191 – مكتبة الشروق الدولية – الطبعة الثامنة 2014.