شكوك وإجابات

هل تحل الهيومانية “Humanism” بديلا عن الدين؟

الكاتب/ د. هيثم طلعت

هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟، هل يمكن التأسيس للقيمة و المعرفة و الغاية و الأخلاق في غياب الإله؟

لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين، واستطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية و القانونية و العقائدية…إلخ، و من ثَم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادًا كاملا؟

لكي تنجح هذه المحاولة لابد من التنشئة في عزلة تامة عن كل دين وعن كل فن وعن كل دراما للوجود الإنساني، وإلغاء كل ما يمكن أن يَستحضر النشء أمامه أي رؤيا لعالم آخر، وبالتالي إلغاء جميع الأعمال الفنية التي تُصور صراع الإنسان في العالم و تطلعه لعالم أفضل، لأن كل هذه الأمور ستؤدي إلى شعور الإنسان بالاغتراب في هذا العالم، وهو شعور ميتافيزيقي روحاني بحت.

في الواقع هذا أمر صعب في الوقت الراهن، لأن الملحدين يعيشون في ظلال الدين، و يمكننا أن نزعم أن كل أخلاق الملحد هي مجرد تأثر بالدين و مبادئه الأخلاقية الأساسية بطريقة صامتة غير محسوسة، و لكنها ثابتة، فقد تربى الملحد في ظلال الدين عشرات السنين، و هو في نقده للدين يتأثر بأخلاق من ينتقدهم.. إن جوهر الإنسان في أخلاقياته وليس في طبيعته المادية.. هذه حقيقة ثابتة.

إقرأ أيضا:اللادينية.. معضلة وجود الشر على الأرض (الجزء الأول)

إن أخلاق الملحد هي عطية الدين، هكذا علينا أن نزعم إلى أن ينشأ مجتمع إلحادي كامل.

جوهر القضية الأخلاقية

لكن بعيدًا عن زعمنا، سنحاول أن نتصور تصورًا إبستمولوجيًا[i].. صورة مبسطة للقيمة و الأخلاق من منظور مادي إلحادي مُجرد، بناءًا على رؤية الملحدين أنفسهم.

أثبت فلاديميير لينين -مؤسس الدولة البلشفية الملحدة- أن الأخلاق خدعة ميتافيزيقية، و قرَّر فريدريك إنجلز–أبو النظرية الماركسية– في كتابه “أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة” أن النظام الأُسري نظام برجوازي، و أن شيوع النساء و إلغاء منظومة الزواج هو الحل الأقرب لروح الإلحاد المادي.

لكن لماذا لا نكون أكثر تفاؤلا، و نفترض أنه تم التأسيس للمجتمع الإلحادي الكامل بناءًا على أخلاق مثالية!، أخلاق كاملة كالتي نادى بها الدين، أخلاق أصلية واضحة وراسخة في الذهن البشري!

لكن في هذه اللحظة على دعاة الإلحاد أن يطلبوا من الناس مزيدًا من المثالية والتضحية، ربما أكثر مما طلب أي نبي من قومه باسم الدين، فليس ثَمة إغراءات ماورائية، و ليس ثمة تطلع أُخروي يبرر التضحية والالتزام بالمُثُل العليا، التي هي جوهر القضية الأخلاقية! و كما يقول المفكر الإنجليزي جون لوك: إذا كان كُل أمل الإنسان قاصرًا على هذا العالم، و إذا كنا نستمتع بالحيـاة هنا في هذه الدنيـا فحسب، فليس غريبًا ولا مجافيًا للمنطق أن نبحث عن السعادة، و لو على حساب الآباء والأبنـاء.”

إقرأ أيضا:الإلحاد في بلادنا.. غوص إلى العمق 2/6

إنها معضلة و أي معضلة، لكن سنتنزل مرةً أُخرى و نتصور أنه تم التأسيس للمجتمع الإلحادي الكامل، و نتصور أن هؤلاء الملحدين قرروا التضحية و تبني نموذج أخلاقي، إمعانًا في تحدي مجتمع المؤمنين، و قرروا أن يتركوا الشر والظلم، و قرروا أن يلتزموا بالأخلاق المثالية، هنا ستظهر المعضلة التي بلا حل، فداخل العالم الإلحادي لا يوجد معنى مادي للشر أو الظلم، فالشر أو الظلم هو وضع الشيء في غير محله، و محل الأحداث في عالم الإلحاد المادي، هو نفس المحل الذي تحدده القوانين الفيزيائية، و بما أنه لا توجد ذرة تخالف تلك القوانين، إذن كل حدث في الكون المادي قد وُضع في محله المادي، و لذلك المفترض ألا يوجد في المجتمع الإلحادي ولا في الكون المادي ظلم أوشر.

فالإنسان مُستوعب تماما في الطبيعة، قوانين الطبيعة هي قوانينه، تسري عليه الحتمية المادية الفيزيائية بمنتهى الأداتية المعرفية، فلا يمكن الاستقلال برؤية متجاوزة أو مغايرة لما تفرضه المادة، وإلا اعتبرنا أن للإنسان أصل آخر و مقدمة أُخرى ولانهار الإلحاد.

العقل وفقا لقوانين الحتمية المادية ليس إلا مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز ذلك الإطار

قوانين الحتمية المادية

أيضًا العقل مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز هذا الإطار، و الحالة النفسية الحاكمة في النموذج الإلحادي هي حالةً نفسيةً للمادة و ليس للروح، و بالتالي لايمكنُها أن تُخَطِّئ حالةً ماديةً أخرى, فحتى تناطحُ الذراتِ هو تصرفٌ لاخطأ فيه ما دام موافقًا للقوانين الفيزيائيةِ الصحيحة.

إقرأ أيضا:الإلحاد الجديد .. الرؤية بمنظور عبد الله العجيري (1/2)

و طبقًا لهذه الرؤية الإلحادية المادية الحتمية فإنه في المرحلة التالية سيتنازل الإنسان عن مركزيته، فالإنسان من منظور مادي إلحادي ليس هو المركز، بل المركز هو الطبيعة المادية و قوانينها وحتمياتها، و بالتالي سيحل محل مركزية الإنسان مركزية الطبيعة باعتبارها المُطلق الأول، و هذا يعني انهيار المشروع الهيوماني (مشروع الإيمان بالإنسان)، و بذا يُصفَّى الإنسان على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري[ii] لحساب الطبيعة، و سيتم استيعابه تمامًا و يسقط في هيمنة المادية الحتمية، و يصبح أي حديث عن الإنسان أو قيمه أو مركزيته هو حديث ملوث ميتافيزيقيًا، و يتحول الإنسان إلى حيوان مادي مجرد، و يعود للصراع الدارويني الذي دخل به التاريخ، و في هذا الإطار المادي التجريدي يصبح الحديث عن الهيومانية لغوًا فارغًا، و تتحول الشعارات إلى سخافة لا معنى لها، فما معنى حماية المعاقين أو المرضى الوراثيين أو تقديم يد العون لهم؟

إن محاولة من هذا القبيل تأتي ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح، و إذا كانت الرؤية الداروينية هي الرؤية الصحيحة، و كانت حتمياتها هي الأصل الثابت، فلن يستوعب الإنسان أصلاً فكرة حماية المعاق أو تقديم يد العون للضعفاء، بل إن تعقيم المعاقين –أي منعهم من الإنجاب- هو الحل الدارويني الأمثل و الأوحد.

أيضًا في الإطار المادي الحتمي الإلحادي كيف تتم المناداة بمفهوم الإنسانية الهيومانية، في عالم يحكمه البقاء للأصلح؟ بل إن أية محاولة لمعاندة هذا الإطار المادي هي محاولة فاشلة، لأنها تأتي ضد التطو، و ضد قوانين الحتمية المادية التي تسري على الوجود.

يقول الدارويني جيمس هِلْ James J. Hill: “إن الثروات تُحدَد تبعاً لقانون البقاء للأقوى.”، ويقول تايل Tille: “من الخطأ الشديد مجرد محاولة منع الفقر أو الإفلاس أو مساعدة الضعفاء أو محدودي الإنتاج..، مجرد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الدروينية، لأنه يتعارض أساسا مع الانتخاب الطبيعي natural selection، و هو جوهر الداروينية.”.

و طبقا لهربرت سبنسرHerbert Spencer فإن: “فكرة وسائل الوقاية الصحية و تدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، و كذلك مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى و الحرص على بقائهم.”!

الأخلاق تسير عكس الطبيعة!

هذه هي الصورة التي يتيحها الإلحاد المادي، إنها المعادلة المستحيلة.. يستحيل أن يتم التأسيس للأخلاق داخل المنظومة المادية، لا يوجد داخل العالم المادي الهيوماني مايُفرح الإنسان أو يسليه، أو يؤسس لقيمه، أو يؤسس لمبادئه، أو يؤسس لأخلاقياته، يستحيل أن يوجد داخل المنظومة المادية ما يجعل الإنسان إنسانًا.

فالأخلاق والقيمة تمثلان ثغرة في النظام الطبيعي، فالأخلاق ثغرة معرفية كبرى في النسق الكوني، ولذا لا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعة و حتميات ماركس التاريخية، أو حتميات داروين العضوية أو حتميات دوركايم الاجتماعية، هذا الاختلاف بين الأخلاق و الطبيعة يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية.

الأخلاق تسير عكس الطبيعة أو بمعنى أدق لا علاقة لها بالطبيعة، فالأخلاق ثغرة في الزمان، فهي نتاج خلق و ليس تطور! و الله خلقها كاملة لأن الله لا ينتج ولا يشيد، وإنما يخلق، وهذا يؤكد أصالة ظهور الإنسان.

الأخلاق عقليا غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبر عبئ على صاحبها، وقد تساءل ماندفيل Bernard Mandeville،أستاذ علم الأخلاق الإنجليزي: ما أهمية الأخلاق لتقدم المجتمع و التطور الحضاري؟ و أجاب ببساطة:لا شيء بل لعلها تكون ضارة.

و لذا فالأخلاق لم تتم البرهنة عليها عقليًا إلى الآن، و الأخلاق و الدين هما أقدم الأفكار الإنسانية، و قد ظهرا سويًا مع الإنسان كل هذا يؤكد أصالة الظهور الإنساني و غائية الأخلاق التي يحملها، إنها اللحظة التي صنعت عصرًا جديدًا.

إن الإنسان يتحرك في الحياة و هو يعلم يقينًا أنه ليس مُفصل على طراز داروين، و لذا يرفض باستمرار إلحاح العلم المتزايد على أن الجنس الأبيض أفضل من الأسود، أو أن إبادة المعاقين و الضعفاء خيرٌ للجنس البشري، أو أن الإنسان حيوان مادي، و هذا يؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يرفض التكليف الإلهي بداخله، و أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني!

في النموذج المادي تضيع ملحمة الوجود الإنساني و دراما الحياة الإنسانية، وتموت القيمة البشرية..

الإنسان ليس الأرقى!

و تأتي النزعة الهيومانية الإنسانية الجديدة كتوكيد عجيب على هذا الأمر، فهي تستقي مباديء غير مادية و غير علمية، تؤسس بها لمفاهيم مستقلة عن الوجود المادي، و تؤكد بها أن الإلحاد يرفض أن يكون إلحادًا، و أن الملحد في قمة إلحاده يترفع عن المادية الحتمية، و لذا لنا أن نتساءل: إذا كان الله غير موجود كما تزعمون، فلماذا التمحك في ظلاله؟

لماذا محاولة التأسيس لفلسفة هيومانية ملوثة ميتافيزيقيًا؟، إذا كان الإنسان ابن المادة و من المادة و إلى المادة، فلماذا الحديث عن سموه أو قيمته أو مركزيته؟

إن الهيومانية هي توكيد متزايد على أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني، و أن الإلحاد شيء و الإنسان الروح و الجسد شيء آخر تمامًا.

لقد حاول كهنة المادية الإلحادية الغربية -بعيدًا عن هذه الرؤى الميتافيزيقية- تحليل ظاهرة الوجود الإنساني، فوجدوا أن الإنسان لا يعدوا كونه كائن طفيلي لا يوجد ما يُميزه، و لذا فقد ظهرت دعوات تعميمية تُنادي بإلغاء التفرقة بين البشر و الحيوانات و الحشرات، بل و النبات، و محاكمة كل من يتعرض للفيروسات أو دودة الأرض، لأنه بيولوجيًا لا فرق بين الإنسان و دودة الأرض، فكلاهما على نفس الدرجة من التطور النوعي.

يقول كريستوفر مانيز Christopher manes: “لا يوجد مستند لرؤية البشر ككائن أرقي من غيره.”، و في سويسرا ظهرت قوانين عدم إذلال النباتات.

و يقول بيتر سنجر،الأُستاذ بجامعة برينستون:Princeton university “حياة رضيع ليست أغلى داروينيًا من حياة شبمانزي أو خنزير.”

و يقول الدارويني الأمريكي James lee: “يجب تقليل عدد البشر قدر الإمكان، يجب إيقاف الزواج و قتل الرُضع”، و قد اتخذ هذا الدارويني وسائل حقيقية لقتل البشر باعتبارهم طاعون و حيوان طفيلي فاسد، و في سبتمبر 2010 قُتل جيمس لي حين اتجه إلى موقع قناة ديسكفوري و أخذ ثلاث رهائن، و كان معه بعض القنابل، إلا أن الشرطة لم تمهله و أردته قتيلاً، قبل أن يُنفذ مخططه الدارويني!.

يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه الأشهر “نهـاية التاريخ”: “حقوق الانسان لها مشكلة فلسفية عميقة إذ لابد أولاً أن نفهم الإنسان قبل أن نبحث في حقوقه، نفهم طبيعة الإنسان، فالعلوم الطبيعية الحديثة تشير إلى أنه ليس ثمة فارق بين الانسان و الطبيعة، و عندما نوسع في المساواة التي تنكر وجود أي اختلافات بين البشر، فيمكن أن يشمل ذلك إنكار وجود اختلافات هامة بين الانسان و القردة العليا، و تنشأ عن ذلك أسئلة لا حصر لها، إذ كيف يكون قتل البشر غير مشروع، في حين يكون قتل هذه الحيوانات ليس كذلك، و سنصل حتمًا في مرحلة ما إلى السؤال التالي: لماذا لا تتمتع الطفيليات المعوية و الفيروسات بحقوق مساوية لحقوق الإنسان؟.

إن عدم اهتمام الناس بهذه المساواة يوضح أنهم لا يزالون يؤمنون بمفهوم ما عن تفوق قدر الانسان، و حتى حماة الطبيعة و حماة الحيوانات، هم فقط يدافعون عن الحيوانات لأنهم يحبون بقائها معنا، و مجرد إفنائها لا سبيل لتعويضه مع ضياع فوائد ربما تُكتشف منها مستقبلاً، فحتى حماة الحيوانات هم للإفادة منها و ليس من أجلها، و هذا عكس حقوق الحيوان، إن مفهوم التوسع في المساواة أدى إلى حيرتنا الراهنة، إننا لو كنا نؤمن حقًا أن الانسان مجرد كائن في سلسلة حيوانية يخضع لقوانين الطبيعة، ليست له قيم متجاوزة، هنا كان لابد أن تتساوى الكائنات جميعًا في الحقوق، و سيتعرض ساعتها المفهوم المساواتي للبشر للهجوم من أعلى و من أسفل، ولا يسمح لنا هذا المأزق الفكري الذي أوقعتنا فيه النسبية الحديثة بأن نرد على هذا الهجوم أو ذاك،و بالتالي لا يسمح لنا بالدفاع عن الحقوق المساواتية –فإما طبقية متوحشة، أومساواتية مستحيلة.”

إنه تحليل مدهش و حقيقي للمأزق الهيوماني، فإن فرانسيس فوكوياما يرى أن المساواة مستحيلة داخل المجتمع المادي، حيث يتحول الإنسان داخل هذا النموذج إلى كائن قانع بسعادته، غير قادر على الإحساس بالخجل، عاجز عن الارتقاء فوق مستوى احتياجاته، و بالتالي فإن الإنسان لم يعد إنسانًا.

أليس الإنسان الكامل في هذه الصيغة هو كائن فج جدير بالإحتقار-و الكلام لفرانسيس فوكوياما-، كائن عاطل عن الإجتهاد و الطموح، و هنا تضيع ملحمة الوجود الإنساني و دراما الحياة الإنسانية.. لقد مات الإنسان في النموذج المادي.
بل إن فرانسيس فوكوياما يصف الملحد في هذه المرحلة بالكلب، يقول فوكوياما إنه: “داخل ذلك العالم سيصبح الناس حيوانات من جديد كما كانوا قبل المعركة الدامية التي بدأ بها التاريخ، إن الكلب يقنع بالنوم في ضوء الشمس طوال اليوم شرط أن يُطعموه، و ذلك لأنه راضٍ بما هو عليه، و لن يقلقه أن غيره من الكلاب حالها أفضل من حاله، أو أن مستقبله ككلب قد جُمد أوأن كلابًا في بقعة نائية من العالم تصادف المذلة و الهوان.

و يتنبأ فوكوياما في صفحة 274  من كتابه أن حياة مجتمع مادي إلحادي هيوماني كامل هي حياة بلا فنون ولا أدب ولا دراما ولا كفاءة، و قليلون سيتصدرون للخدمة العامة و ستكون الحِرف مبتذلة و غير متطورة، و في مرحلة ما سيكون هذا المجتمع عاجزًا عن الدفاع عن نفسه في وجه الحضارات الأُخرى حيث الحضارات الأخرى أصحابها على استعداد لهجر الراحة والأمن، و يخاطرون بحياتهم من أجل القيمة.

إن الأمر الذي لا يجب أن نغفله هنا؛ هو أن الحروب العالمية كانت دائما نتاج المجتمعات الأرستقراطية، و أن الإلحاد هو الذي زوّد الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين باسم العرقية المادية و البيولوجية: (د.هيثم طلعت)

الهيومانية تتداعى 

و إذا كانت الهيومانية تسعى للتأسيس لفلسفتها في إطار العلم بعيدًا عن الدين، فماذا لو أثبت العلم أن العِرق الأبيض أفضل بيولوجيًا من الأسود؟ و أنهم في مرتبة أعلى في سلم التطور، هل سيتم الفصل العنصري بين البيض و السود داخل المجتمع الإلحادي الهيوماني؟ أم ستتم معاندة العلم و البيولوجيا، و معاندة الانتخاب الطبيعي، و إقرار المساواة بين البيض و السود، و ساعتها ستكون أكبر خيانة للتطور و أكبر ضربة للماديين؟

ماذا لو أثبت العلم تفوق الرجل على المرأة ماديًا، و أن الرجل في مرتبة أعلى بيولوجيًا من المرأة؟ هل ستتم المساواة بين الجنسين داخل المجتمع الإلحادي، أم سيكون هذا مطلب غير علمي غير عقلاني عبثي ميتافيزيقي، يقف في وجه التطور و حتميات الطبيعة؟.

هذه هي الرؤية الإلحادية الهيومانية للإنسان بصورتها الحقيقية، فالإلحاد حرَّر أتباعه من أية أعباء أخلاقية، و إذا لم يتم تبني هذه الرؤية في المنظومة الهيومانية، فهذا يعني انهيار الأساس الذي بُنيت عليه الهيومانية، و بالتالي استقاء عناصر غير مادية من خارج المنظومة الهيومانية، سيكون اعترافًا بعدم صلاحيتها كمنظومة فكرية مستقلة لتفسير المغزى الوجودي!

إن الأمر الذي لا يجب أن نغفله هنا؛ هو أن الحروب العالمية كانت دائما نتاج المجتمعات الأرستقراطية الملحدة، و الإلحاد هو الذي زوّد الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين باسم العرقية المادية و البيولوجية الداروينية، و لن تتجاوز الهيومانية هذه الرؤية مهما تظاهرت بخلاف ذلك، و على الهيومانية أن تتبنى بمنتهى الهدوء اليد الخفية عن آدم سميث، و المنفعة عن بنتام، و وسائل الإنتاج عند ماركس، و الجنس عند فرويد، و إرادة القوة عند نيتشه، وقانون البقاء عند داروين، و الطفرة الحيوية عند برجسون، و الروح المطلقة عند هيجل، و إلا فالهيومانية ستُعتبر تمرد على المادية الحتمية.

هذا هو الإلحاد الهيوماني عند التطبيق، و هذا هو أصل معركته و شعارها، و في هذا السبيل قامت حربان عالميتان أُبيد فيهما قرابة 120 مليون نسمة، و كانت حروبًا من الدموية بحيث أرجعت كلاً من المنتصر و المهزوم ثلث قرن إلى الوراء، فالحربان العالميتان اللتان أبادتا حوالي 5% من سكان العالم كانتا نزاع إلحادي- إلحادي، و قام الفلاسفة بوضع مبولة في وسط باريس بدلا من تمثال الجندي المجهول كنايةً عن نهاية الحضارة.

يقول ريتشارد فيكارت Richard Weikart: “لقد نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية، في قلب ميزان الأخلاق رأسا على عقب، ووفرت الأساس العلمي لهتلر و أتباعه لإقناع أنفسهم و من تعاون معهم، بأن أبشع الجرائم العالمية كانت بالحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة.”

لكن الإنسان له روح خاصة مستقلة عن جميع المخلوقات؛ فهو ليس مُفصّلاً على طراز داروين، و لم يوجد من أجل الصراع، إنما وُجد لعبادة الله من إقامة الحق أيـا كان مَن اتبع الحق سواء كان أبيض أو أسود، أما العقل الإلحادي المادي الهيوماني فقد قام بتفكيك البـشر بصـرامة بالغة ليس فيها موطنٌ للمشاعر الإنسانيّة، و القِيَم الروحيّة.

إن البحث عن السعادة على الأرض من منظور إلحادي هو شكل من أشكال الغرور الإنساني، و هو يعني القول بمركزية الإنسان، و أن له مكانًا خاصًا في الكون، و بداهة لا يمكن القول بوجود غائية إنسانية مستقلة عن الغائية الطبيعية أوالمادية.
ولا يأتي الإيمان بمركزية الإنسان و قيمته و سموه إلا بالإيمان بمُطلق أعلى يتجاوز المادة، فالمساواة بين البشر هي مسألة دينية بحتة، فإذا لم يكن الله موجودًا، فالناس بجلاء و بلا أمل غير متساوين، و تأسيسًا على الدين فقط يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة.

و لذا يقول الدكتور المسيري رحمه الله: “إن الإله هو التركيب اللانهائي المفارق لحدود المُعطى النهائي، هو النقطة التي يتطلع إليها الانسان و يحقق التجاوز من خلالها، و من ثًم بغيابه يتحول العالم إلى مادة طبيعية صماء، خاضعة لقوانين الحركة و الصيرورة التي يمكن حصرهاو إحاطتها و التحكم فيها، و ينضوي الإنسان تحت نفس النمط.

 إذ بغياب الإله يتحول الإنسان إلى كم مادي يمكن أدلجته و قولبته في إطار مجموعة من المعادلات الرياضية الميتة، و في هذه اللحظة تموت الروح و يتبعها موت الإنسان، فالإيمـان بالإنسان و قيمته و مركزيته و سموه هو إيمـان يتجـاوز حركة المادة و ديناميكيتهـا، فعندما يُقرر الإنسان أن ينسى الإله.. في هذه اللحظة بالذات يكون قد نسي نفسه “نسوا الله فأنساهم أنفسهم” (الحشر:19)”.

بدون وجود إله تفقد كل الكائنات حدودها و حيزها، و تنشأ إشكاليات في النظام المعرفي و الأخلاقي، و تفقد الأشياء حدودها و هويتها و يَصعُب التمييز بينهما، كما تَختفي التفرقة بين الخير و الشر، و تختفي الإرادة و المقدرة على التجاوز و تسود الواحدية و الحتمية، و قد اختصر رئيس التشيك فاكيلاف هافل هذه الإشكالية الكبرى فقال عبارته الرائعة: “حينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني”، فالفلسفة الهيومانية ضحت أول ما ضحت بالإنسان.

و منذاللحظة التي هبط فيها الإنسان من السماء.. منذ المقدمة السماوية لم يستطع الإنسان أن يختار أن يكون حيوانا بريئا أو يكون إنسانا مُخيرا، “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا” ( الأحزاب:72).

هذا هو الإنسان، و هذه هي طبيعته الحقيقية، و على الهيومانية أن تتقبله في هذا الإطار، و أن تستمد قيم معرفية متجاوزة، و أن تتجاهل الرؤية المادية الإلحادية الداروينية كتحليل لظاهرة وجوده، وهذا يعني أنها لن تصبح هيومانية و إنما دينًا جديدًا، و في هذه اللحظة تفقد أهم سماتها و خصائصها، و ينهار المشروع الهيوماني ككل.

السابق
بين الأديان.. الإسلامُ يتألق!
التالي
الجاذبية أََم الإِلَه؟ مَن يَملِكُ سِرَّ الكَون؟