غزوة بدر من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وهي أول مواجهة عسكرية وقعت بين المسلمين وبين كفار قريش، وتُعدُّ من أشهر الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم ضد الكفار، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى منطقة بدر التي وقعت المعركة فيها، وبدر بئر مشهورةٌ تقع بين مكة والمدينة المنورة، كما عُرِفت هذه الغزوة المباركة في القرآن الكريم بيوم الفرقان، لأنها فرقت بين الحق والباطل، وكان لها أثرها الكبير في إعلاء شأن الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ} (الأنفال:41)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران:123).
قال ابن كثير: “قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فَرَسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، ليس معهم من العُدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في دروع الحديد والسيوف، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وَحْيه وتنزيله، وبيَّض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله؛ ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة} أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعُدد”.
إقرأ أيضا:إني أَجِدُ رِيحَ الجَنَّة دُون أحُدوقد قُتل في هذه الغزوة سبعون من كفار قريش، منهم أبو جهل عمرو بن هشام, وأمية بن خلف، والعاص بن هشام، وأُسر منهم سبعون، بينما لم يُقتل من المسلمين سوى أربعة عشر شهيداً، وتعتبر هذه الغزوة يوماً عظيماً من أيام الإسلام، حيث كانت البداية لظهور المسلمين وعلوّهم، وكل انتصار للمسلمين سيظل مَديناً لبدر، التي كانت بداية الفتوح الإسلامية والانتصارات الإيمانية.
وفي أحداث غزوة بدر الكثير من المشاهد والبطولات الجديرة بالتأمل والاعتبار؛ من ذلك مشهد الغلامين الصغيرين معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما مع أبي جهل الذي يأتي في مقدِّمة مَن حملوا لواء إيذاء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
يروي تفاصيل هذا المشهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيقول: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا (صغيرة أعمارهما)، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما -أي بين رجلين أقوى من الرجلين اللذين كنت بينهما وأشد-، فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال:أُخبِرْت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده (شخصي شخصه)، حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، قال: فلم أنشب -أي: ألبث- أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحدٍ منهما: أنا قتلته، فقال: (هل مسحتما سيفيكما؟) قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال صلى الله عليه وسلم: (كلاكما قتله) وقضى بسلبه (ما معه من دابة وسلاح) لمعاذ بن عمرو بن الجموح. متفق عليه.
إقرأ أيضا:موت أبي لهب عبرة ومعجزةوعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (من ينظر ما فعل أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى بَرَد (مات ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح)، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبا جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتله قومه؟ أو قال: قتلتموه) رواه البخاري. قال ابن حجر: “وهما معاذ بن الجموح ومعاذ بن عفراء“، ثم قال: “وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه: الحارث، وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليباً”. قال القاري: “وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلَبه أي: بمسلوب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجَموح؛ لأنه أثخنه بالجراحة أولاً، فاستحق السَّلَب، ثم شاركه الثاني، ثم ابن مسعود وجده وبه رمق، فحزَّ رأسه”. وقال النووي: “اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السَّلَب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا كما قتله) تطييباً لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله”، وقال: “وفي هذا الحديث من الفوائد: المبادرة إلى الخيرات، والاشتياق إلى الفضائل، وفيه الغضب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه ينبغي أن لا يحتقر أحد، فقد يكون بعض من يستصغر عن القيام بأمر أكبر مما في النفوس، وأحق بذلك الأمر، كما جرى لهذين الغلامين”.
إقرأ أيضا:وقفة مع غزوة حمراء الأسدوفي هذا الموقف والمشهد الكثير من الفوائد، نذكر منها:
– أدب الغلامين الصغيرين معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء وشجاعتهما، حيث خاطبا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بقولهما: “يا عم” للتوقير، فراعيا كِبَر سِنِّه وحداثة أسنانهما، وطلبهما ـرغم صغر سنهماـ معرفة أبي جهل ليقتلاه، وتصميمها على قتله أو الموت دونه، وقد قال كل منهما: “والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل مِنَّا“، فالأمر بالنسبة إليهما لم يكن مجرد محاولة لقتل أبي جهل، أو أداء لواجب، بل تصميم وعزيمة، لا يثنيها شيء، فقد أقسما بالله أنهما لن يفارقاه في حال رؤيته حتى يموت أحدهما، وفي ذلك حبّهما للشهادة في سبيل الله، والحرص عليها، واستعدادهما لها، من قبل دخول المعركة، لقولهما: “حتى يموت الأعجل منا”. وكذلك ظهرت شجاعتهما وقوتهما جليّا في تصرفهما لمَّا رأَيَا أبا جهل، لقول عبد الرحمن بن عوف: “فابتدراه بسيفيهما فضرباه“.
– حبهما البالغ للنبي صلى الله عليه وسلّم رغم صِغر سنهما، ظهر ذلك في سؤالهما عن أبي جهل ليقتلاه، فلما سئلا عن حاجتهما له قال كل منهما: “أُخْبِرْتُ أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم“، فكأنهما لم يَرَيا شيئاً في أبي جهل يستحق عليه القتل أعظم من أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهذا يدل على شدة حبهما للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وشدة غضبهما على من يؤذيه.
ثم إن فيما حدث لأبي جهل من قتله على يد الغلامين الصغيرين استخفاف من الله عز وجل به، كما كان يستخف أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلّم، إذ لم يقتله أحدٌ من كبار الصحابة كحمزة أو عليّ أو سعد بن معاذ أو سعد بن عبادة رضي الله عنهم، وإنما جُعِل موته على يد غلامين صغيرين في مقتبل الشباب، وعلى يد رويعي الغنم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي كان قصير القامة، نحيل البدن، وجعل مكان دفنه هو قليب بدر، بعد أن تعفنت جثته وجثث أقرانه من طغاة قريش، الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة بأسمائهم، كما ذكر ذلك مسلم في “صحيحه” من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع، ولم أحفظه، فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سَمَّى صرعى (قتلى) يوم بدر، ثم سُحِبوا إلى القليب قليب بدر)، وفي ذلك عبرة للذين يغترون بقوتهم، وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيصدون عن سبيل الله، ويعتدون على الضعفاء ويظلمونهم، فمآل هؤلاء الطغاة الظلمة إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يُمَكِّن الله للضعفاء والمظلومين منهم في الدنيا، كما حدث لأبي جهل يوم بدر، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5).
لقد كان دافع الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ما سمعاه من أنه كان يؤذي ويسب النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا بلغت محبة شباب الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض بالأذى لرمز الإسلام الأول، ومن ثم استحق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الثناء الجميل في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة لِمَا بذلوه من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية، ومنها ما فعله هذان الشابان الصغيران معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما.