عقلانيون

ليس عدوا لله.. بل غاضبا من الدين!!!

من يريد تفهم الملحدين وأوضاعهم عليه أن ينزل من برجه العاجي المحاط بجدران مغلفة بالافتراضات الدينية الخاطئة بخصوص تلك الظاهرة وأول مرحلة لهذا التفهم هو التعرف على الغاضبين من الدين وظروفهم وأوضاعهم وتلك المرحلة الصعبة التي يمرون بها قبل الحكم عليهم أو محاربتهم!

د. أحمد عبد ربه

واحدة من الأمور التي يتم التعامل معها بسطحية شديدة مخلوطة ببعض التكبر الذى ينم عن جهل شديد بحقيقة الأمور، هو موضوع الإلحاد. يكاد لا يمر شهر إلا وهناك خبر ما متعلق بأحد التيارات الإسلامية (أفراد أو جماعات أو أحزاب) متحدثين عن الإلحاد و«مقاومته» كأنه مرض أو «محاربته» وكأنه عدو، دون الالتفات إلى أبسط الحقائق المتعلقة بالموضوع ألا وهو أن الإلحاد هو في النهاية إشكالية متعلقة بموضوع الإيمان نفسه.

الخطاب التقليدي المتعلق بالإلحاد في العالم الإسلامي ينطلق من فرضية خاطئة مفادها أن الملحد هو «عدو لله»، بعبارة أخرى يتم التعامل مع الملحد وكأنه شخص أراد أن يتحدى الله، أي أنه يعلم أن الله موجود ويقرر بكامل إرادته تحدى هذا الوجود!

والحقيقة أن هذا التعامل خاطئ تماما والفرضية المنطلق منها لا تمت للواقع من قريب أو بعيد، فالملحد لا يريد تحدي الله، بل هو يتحدى المتحدثين باسم الله! هؤلاء الذين يدعون احتكار الحديث باسم الله ومن ثم إنفاذ إرادته غير عابئين بأي قيم متعلقة بالعدل أو الرحمة أو الحرية وغيرها من القيم المرتبطة بالإسلام خصوصا والأديان عموما!

إقرأ أيضا:قناعات الملحدين في قفص الاتهام!! (الجزء الثاني)

قطعا هناك أسباب أخرى للإلحاد ومنها منطق التفكير وطريقة الاستدلال على الحقائق الدينية والخلط بين الأدوات العلمية والطرق الفطرية أو الحدسية غير العلمية بشكل عام للتوصل لفكرة وجود الإله وهو خلط مثير للدهشة لأنه يتم ارتكابه من قبل المتدينين وغير المتدينين على السواء للتوصل إلى الإيمان بوجود الله (ما يسمى بالإعجاز العلمي)، أو لإثبات عدم وجوده!

في المنطقة العربية تحديدا فإنه عادة لا ينام الإنسان مؤمنا ويستيقظ ملحدا ولكن بين النقطتين تكون مرحلة معقدة من الأسئلة والخواطر والأحداث التي عادة ما تشكل مرحلة ضاغطة وحساسة وغاضبة تنتهى أخيرا بالقرار المعاكس للإيمان، ألا وهو الإلحاد.

 ومن ثم من يريد تفهم الملحدين وأوضاعهم عليه أن ينزل من برجه العاجي المحاط بجدران مغلفة بالافتراضات الدينية الخاطئة بخصوص تلك الظاهرة وأول مرحلة لهذا التفهم هو التعرف على الغاضبين من الدين وظروفهم وأوضاعهم وتلك المرحلة الصعبة التي يمرون بها قبل الحكم عليهم أو محاربتهم!

الدين والمفاهيم المطلقة…

في تقديري وبحسب معرفتي الشخصية ببعض الأشخاص الملحدين في العالم العربي تحديدا حيث الغالبية العظمى منهم ولدوا لأسر مسلمة، فإن العنوان الكبير لسبب الغضب ومن ثم الإلحاد هو غياب العدل!

المفاهيم المطلقة مثل العدل أو الرحمة أو الحرية أو المساواة هي مفاهيم مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل الأديان بلا استثناء، وفكرة وجود الله بغض النظر عن طبيعته هي فكرة الإيمان بالعدل المطلق والرحمة المطلقة، والإسلام تحديدا يعلى كثيرا من قيم العدل والرحمة والإحسان، فإذا ما استقر في ذهنك أن العدل لا يتحقق وأن إحدى أهم أدوات غياب العدل هو الدين وممثلوه على الأرض، فإن هذا عادة ما يتسبب في اهتزاز الكثير من تلك القيم المطلقة في ذهنك ويجعل عجلة الأسئلة تدور حول حقيقة الأديان والإله!

إقرأ أيضا:أبناؤنا وخطر الإلحاد

في الحالة العربية تحديدا فإن الكثير من الأزمات والصراعات السياسية قد أدت إلى حالة غضب عارمة من غياب قيم العدل والحق والحرية بمشاركة وتأييد من رجال الدين وعلمائه، وهو ما تسبب في حالة غضب مستمرة ومتزايدة عن تلك الأزمات والصراعات، ثم وبعد الصعود المكثف لرجال الدين على مسرح السياسة بعد اندلاع الثورات العربية بين الانتقاد ثم التأييد ثم العودة إلى النكوص مرة أخرى جعل هذه القيم المطلقة عن العدل والحرية المفترض ارتباطها بالدين تهتز أمام الناس وخاصة فئة الشباب منهم الذين تعلقوا بتلك المنظومة المطلقة من القيم ثم انهار كل شيء بمباركة سلاطين السياسة والدين معا!

هنا نكون أمام صورة أكثر وضوحا للموقف الإلحادي بشكل عام، فهو ليس بالضرورة تحديا لله ولكنه تحدٍ للنظام السائد المنتصر الذى عادة ــ على الأقل في المنطقة العربية ــ ما يكون تحالفا دينيا سياسيا حديديا غير خاضع لأى معايير قيمية عادلة مما يساهم وبقوة في ارتفاع وتيرة مشاعر الغضب من ممثلي الله على الأرض وصولا لمرحلة الإلحاد!

إذن يحتاج المتحدثون باسم الله أن يتخلوا عن ذلك التنطع في وصف ظاهرة الإلحاد والتعامل معها من منطق فوقى سطحي وأن يجيبوا على أسئلة الغاضبين وأن يساعدوهم على الخروج من أسباب غضبهم وهم في ذلك مطالبون بثلاثة أفعال رئيسية:

إقرأ أيضا:الإلحاد.. محاولة لفهم الظاهرة (الجزء الأول)

أولا: التعاطي مع الغضب المؤدى للإلحاد باعتباره مشاعر طبيعية يشعر بها ضحايا  أوضاع غير عادلة ولا رحيمة (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) ومن ثم يلزم أمامها نقاش واقعى لحال الدين ودوره المجتمعي.

ثانيا: التعاطي مع الغضب من الدين باعتباره نتيجة طبيعية لعجز المتحدثين باسم الله والإجابة على الأسئلة العقلية المادية المتعلقة بالأديان.

ثالثا: إعادة شاملة وأكثر جدية لتقييم مصادر المعرفة الشرعية وإعادة البحث فيها لإنتاج معرفة شرعية مغايرة لتلك التي سادت خلال القرون الماضية، واستخدام أدوات مغايرة أو منقحة للاستدلال والبحث في تفسير القرآن الكريم وإعادة تقييم شاملة للأدوات المستخدمة في علم الحديث والتفسير والفقه مع إضافة أدوات منهاجية علمية مختلفة للعلم الشرعي من شأنها إعادة تقييم كل المعارف الشرعية القائمة لإنتاج أخرى جديدة ملائمة للعصر وللتطور العقلي والمعرفي فيه!

قطعا كل ذلك لن يتم إلا في إطار حركة تصحيحية شاملة للعلم الشرعي، وهى مهمة تكاملية بين المثقفين وقادة الرأي والفكر وبين رجال الدين وعلمائه، تكون مسئولية السلطة السياسية فيها هي بالأساس توفير البيئة الآمنة للنقاش والتفاعل وتغيير ما يتطلب من قوانين وتشريعات لحماية المنخرطين في هذه المشاريع الإصلاحية!

يتطلب هذا أيضا أن تتعاطى المؤسسات التي تمثل الدين مع الموضوع باعتبارها شريكا لا وصيا أو محتكرا لأن ذلك من شأنه إفشال أي آمال إصلاحية، فالحديث عن الإصلاح أو تغيير الخطاب باعتباره أمرا فنيا حكرا على المؤسسات الدينية هو أول أعطاب عملية الإصلاح الديني برمتها، وكما نرى فإن كل ذلك لن يكون منفصلا بأي حال من الأحوال عن عملية إصلاح مجتمعي أشمل من شأنها أن تساعد كل تلك التغيرات السالف ذكرها على الحدوث!

رغم تعقد الموضوع وتشعب محاوره، إلا أنه ما لم تسعَ المؤسسات الدينية وممثلوها إلى تفهم دوافع ومشاعر الغاضبين من الدين ومن تطبيقاته المجتمعية والسياسية فإن الإسلام سيظل يخسر الكثير من أتباعه ومن لم يتمكن من الجهر خوفا، سيكمل طريقه سرا، فهل أدرك كل ذلك علماؤنا الأجلاء؟

السابق
أبناؤنا وخطر الإلحاد
التالي
الأسرة.. منبع الفكر السوي أو منبت الإلحاد!