الكاتب: عبدالله بن محمد العسكر
لقد كان العرب في الجاهلية أمة ممزقة لا يربطها رابط، ولا يلمها شعار. فوضى في الحياة، واضطراب في الموازين، وخلل في نظم العيش، حتى أراد لله لهذه الأمة العزة بعد الذل، والرفعة بعد الانحدار وذلك حين أكرمها بأعظم رسول وهو محمد (صلى الله عليه وسلم)، وحين اختار لها أعظم شريعة، وهي شريعة الإسلام الخالدة المطهرة من كل نقص وعيب.
وكان المسلمون في بداية أمرهم ضعفاء يخافون أن يتخطفهم الناس. وجلسوا على تلك الحال ثلاث عشرة سنة حتى أذن الله لرسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة فهاجر هو وصحابته إلى المدينة التي كانت تسمى ( يثرب ). فبدأت بذلك مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام؛ بل هي في الحقيقة البداية لدولة الإسلام الفتية.
لقد أدرك الرسول القائد، والمعلم الحاذق: رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أن أصحابه ومن دخل في دينه يحتاجون إلى تربية وتعليم، وتوجيه وإرشاد، وذلك يتطلب مكاناً يجتمعون فيه، ويتدارسون شرائع الإسلام وأحكامه في رحابه. فكان أول عمل بدأ به (عليه الصلاة والسلام) أن شرع هو وصحابته الكرام في بناء المسجد كما جاء ذلك عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ ( بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ )… وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ :”يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا” قَالُوا: لا وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا من اللَّهِ. فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم)َ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:
إقرأ أيضا:المباح فعله في المسجداللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخرهْ *** فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ. (رواه البخاري)
منذ تلك اللحظة صار المسجد منارة تشع في أرجاء دولة الإسلام الناشئة، وقبساً يشع في سمائها الوضّاءة: حيث أصبح مكان أداء العبادة من الصلوات والاعتكاف، كما أصبح ملتقىً للمسلمين ومنتدىً لحواراتهم. وهو المكان الذي يبث من خلاله الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أحاديثه النورانية فيصلح المعوج، ويهدي الضال، ويرشد الحائر، وينفس عن المكروب، كما أنه كان أيضاً بداية الانطلاقة لجيوش الإسلام التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها، في عهده وعهد من جاء بعده من خلفاء المسلمين.
عباد الله: إن المساجد التي هي بيوت الله هي خير بقاع الأرض وأحبها إلى المولى جل وعلا. لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغضها إليه أسواقها” (رواه مسلم).
لأجل ذلك فإنه يحسن بنا أن نقف وقفات عجلى مع آداب المسجد وشيء من أحكام الحضور إليه والجلوس فيه. فمن ذلك:
أولاً: الإسهام في بناء المسجد وعمارته هو من سمات أهل الإيمان الذين يرجون موعود الله والدار الآخرة. وعمارة المسجد على نوعين:
عمارة حسية: ويعنى بها بناء مكان يأوي إليه الناس ليصلوا فيه ويعبدوا ربهم تحت جدرانه.
إقرأ أيضا:المشروع في المسجد (2/2)وقد ثبت جملة من النصوص الشرعية تحث على بناء المساجد والعناية بشؤونها وحفظها من الأوساخ والأدران، ومنع السفهاء والغوغاء من الإضرار بها. فمن ذلك:
قال تعالى: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المفلحين” (التوبة /الآية 18).
وحذر من إفسادها فقال: “ومن أظلم ممن منع مساجد أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ وفي الآخرة عذابٌ عظيم” (سورة البقرة- الآية 114).
وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب” (رواه أبو داوود).
عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: قال (صلى الله عليه وسلم): “مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ” (رواه مسلم).
وأما عمارة المساجد المعنوية والتي هي الأصل الأصيل في العمارة فالمراد بها أداء الصلاة فيها والاعتكافُ وقراءة القرآن وذكر الله، واتخاذها منطلقاً للتوجيه والتربية ونحو ذلك.
أما مجرد عمارة المسجد وزخرفتِه والتباهي بحسن بنائه وتصميمه مع خلوه من العباد والمصلين فليس مرادًا في الشرع كما هو حاصل في كثير من بلاد الإسلام اليوم، ولله درّ القائل:
إقرأ أيضا:المباح فعله في المسجدمنائركم علت في كل حيٍّ *** ومسجدكم من العبّاد خالي
وجلجلة الأذان بكل فجٍّ *** ولكن أين صوتٌ من بلالِ؟!
إن العمارة الحقيقية للمسجد هي إحياء ذكر الله فيه وإقام الصلاة يقول تعالى: “في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار” (سورة النور- الآية 36).
وفي صحيح مسلم عن أني هريرة (رضي الله عنه) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قلنا: بلى يا رسول الله.قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط” (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال صلى الله عليه وسلم: “إذا توضأ أحدكم فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه (يعني الملائكة) ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدِث فيه” (رواه البخاري).
ثانيًا: من آداب المسجد أن يؤتى إليه مشيًا: مع أن الركوب إليه لا حرج فيه لكن المشي أعظم أجرًا ولا شك، ودونكم جملة من الأحاديث تبين فضل المشي إلى المسجد:
عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم” (رواه البخاري).
وعن أبيِّ بن كعب (رضي الله عنه) قال: “كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد إلى المسجد منه وكان لا تخطئه صلاةً، فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فأخبر النبي (عليه السلام) بذلك فقال: “قد جمع الله لك ذلك كله” (رواه مسلم).
وعن جابر بن عبدالله (رضي الله عنهما) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لبني سلمه حين أرادوا القرب من المسجد لبعد بيوتهم: “يابني سلمة: دياركم تكتب أثاركم، يابني سلمة: دياركم تكتب أثاركم” (رواه مسلم).
وعن بريدة الأسلمي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة” (رواه الترمذي) والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومستفيضة.
ثالثًا: من آداب المسجد المواظبة حضور صلاة الجماعة
إن فضل صلاة الجماعة مشهور معروف فيكفي أن الذي يصلي في الجماعة يضاعف له الأجر على من صلى منفردا سبعًا وعشرينَ درجة.
والصحيح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال لا تسقط عنهم بأي حال من الأحوال إلا من عذر يمنع من الإتيان إلى المسجد.
ومما يدل على ذلك :
1- قوله تعالى: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين” (البقرة /الآية 43).
2- أن الله تعالى أمر بإقامتها في حال الحرب والخوف ولم يسقطها عن الصحابة مع أن المقام مقام خوف وحرب قال سبحانه: “وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم…” (سورة النساء- الآية 102).
3- ثبت في الصحيحن عن أبي هريرة قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لولا مافي البيوت من النساء والذرية لهممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار” .
4- عن عبد الله بن مسعود قال من سره أن يلقى الله عز وجل غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله شرع لنبيكم (صلى الله عليه وسلم) سنن الهدى ولعمري لو أن كلكم صلى في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدخل في الصف.
5- ما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الأعمى الذي ليس له قائد وداره بعيدة ومع هذا قال له (صلى الله عليه وسلم): “هل تسمع النداء؟” قال: نعم ، قال “فأجب فإني لا أجد لك رخصة”.
كل هذا يقال في حق من ترك صلاة الجماعة فكيف بمن لا يصلي أصلا أو يكتفي بالجمعة فقط ظنا منه أنها تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى استدلالا بقوله عليه السلام (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ونسي أو تناسى آخر الحديث (مالم تُغشى الكبائر) وهل ترك الصلاة إلا من كبائر االذنوب؟! إنه لا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة كما قال الفاروق (رضي الله عنه).
رابعًا: من آداب المسجد أحكام فقهية يجب ألا تغيب عنا منها:
1- أداء التحية عند الدخول وهي سنة مؤكدة جدًا تفعل في كل وقت حتى في أوقات النهي ما دام المرء دخل المسجد لعموم قول (النبي صلى الله عليه وسلم): “إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين” (رواه البخاري ومسلم). والمقصود ألا يجلس حتى يصلي.
2- الحرص على نظافة المسجد والبعد عن كل ما يجلب له الأوساخ والنجاسات، ولهذا فإن الشرع نهى عن البصاق في المسجد. قال عليه الصلاة والسلام (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وقال (صلى الله عليه وسلم) : “ورأيت في مساوئ أمتي النخامة في المسجد لا تدفن”. وقد عزل النبي إمامًا بصق تجاه القبلة وقال: “إنك قد آذيت الله ورسوله”.
3- الحرص على الصلاة إلى السترة لقوله (صلى الله عليه وسلم): “ليستتر أحدكم ولو بسهم”، والحذر الحذر من قطع الصلاة، قال (صلى الله عليه وسلم): “لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه (أي من الإثم) لكان أن يقف أربعين (أي سنة)” (رواه النسائي).
ونحن مأمورون برد من يريد أن يقطع صلاتنا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ “إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَىْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان” (رواه مسلم).
4- عدم الإسراع عند سماع الإقامة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : “إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا”(رواه البخاري ومسلم).
5- عدم أكل أو شرب ما له رائحة كريهة ومنها الثوم والبصل والدخان وكل ما كان مؤذيًا للمصلين قال (صلى الله عليه وسلم): “من أكل البصل والثوم فلا يقربن مصلانا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم” (رواه مسلم).