ملخص المقال
- كان السموءل بن يحيى المغربي صاحب مدرسة طبية متفردة سار عليها أولاده من بعده، وكان له باع في علم الصيدلة
نسبه وتعليمه
هو صموئيل بن يهوذا بن آبون، يهودي وابن لأحد الأحبار الكبار من اليهود، وكذلك كانت أُمُّه، وكعادة العرب في التعريب فقد سماه والده (السموءل).
طبيب أنجبته شجرة الحضارة الإسلامية، نبغ في علوم كثيرة؛ منها: الجبر، والطب، والهندسة، وغيرها، ويتَّفق المترجمون لحياته على أنه وُلِدَ بالمغرب، وتوفي بالشرق الإسلامي في مدينة (مراغة) من أرض أذربيجان عام (570هـ/ 1174م)، كما يذكرون أنه مات شابًّا، بما يُهَيِّئ لنا أن نتوقَّع أن مولده كان من بعد العقد الثاني من القرن السادس الهجري.
وفي سيرته الذاتية يحكي السموءل أن أباه هو الحبر اليهودي -يهوذا بن آبون- أعلم أهل زمانه بعلوم التوراة، وأقدرهم على التوسع والإنشاء[1]. كما كانت أمه متبحِّرة في علوم التوراة والعبرية كذلك؛ فهي سليلة أبٍ من العلماء باليهودية، ويمتدُّ نسبها إلى السبط الذي منه موسى عليه السلام[2].
فهو إذن سليل بيت يهودي عريق في العلم، ثم هو طفل أتى بعد انتظار طويل؛ فكان الولد الذي أفرغ فيه أبواه خلاصة علمهما وتربيتهما، إلى الحدِّ الذي أكمل فيه العلم باللغة العبرية وبعلوم التوراة عندما كان في الثالثة عشرة من عمره[3].
إقرأ أيضا:ابن الكحال – مؤسس طب العيونوبعد اطمئنان الأب إلى هذا الوعي بالتوراة وعلومها، انتقل السموءل إلى تَشَرُّب باقي العلوم، فتعلَّم الحساب الهندي والزيجات (وهي الجداول الفلكية)، فأحكم هذيْن العلمين في أقل من سنة -كما يروي- ثم تعلَّم الحساب الديواني، وعلم المساحة، والجبر، والمقابلة، والهندسة.
ومن اللافت للنظر أننا نجد لروايته مع الطب طعمًا خاصًّا، فهو منذ أن بدأ تعلُّمه وهو يأخذ ما عند الشيوخ، ثم يتعلَّم الطب إلى جوارها، فبدأ تعلُّم الطب على يد الشيخ الأستاذ أبي الحسن الدسكري، ثم صار يتأمَّل ويشاهد ما يتَّفق من الأعمال الصناعية في الطب، والمعالجات التي يعالجها خاله أبو الفتوح بن البصري. وكان السموءل إذا رأى أنه أكمل إتقان علم من العلوم، ينتقل إلى تعلم غيره، لكنه -كما يبدو من سيرته- يبدو حريصًا على أن يَذْكر ويُذَكِّر القارئ لسيرته، أنه في تلك الفترة لا يقطع القراءة في الطب ومشاهدة علاج الأمراض. وحين يقصّ خبر رحلته العلمية إلى مصر يعود فيذكرنا كذلك أن الطب كان هو عمله وشغله بموازاة دراسة غيره من العلوم، فيقول: “وأنا في خلال ذلك (يقصد دراسة الجبر والهندسة) متشاغل بالطب”.
اهتمامه بالطب وإنجازاته
إننا نلمح في حياة السموءل اهتمامًا خاصًّا بالطب؛ فهو إذ يتحدَّث عن شغفه بالعلوم الهندسية والرياضية يقول: “وكان بي من الشغف بهذه العلوم، والعشق لها ما يلهيني عن المطعم والمشرب إذا فكرت ببعضها”. ثم ينقطع لها ليحلَّ معضلاتها، ويَرُدَّ على أربابها ممن سبقوه، ويُحَقِّق إنجازات ضخمة في التعديل على إقليدس[4] في الهندسة، حتى يقول: “وحلّلت جميع تلك الكتب (كتب الهندسة) وشرحتها، ورددت على من أخطأ من واضعيها، وأظهرت أغلاط مصنفيها، وعزمت على ما عجزوا عن تصحيحه وتحقيقه، وأزريت على إقليدس في ترتيب أشكال كتابه بحيث أمكنني إذا غيرت نظام أشكاله، أن استغني عن عدة منها لا يبقى إليها حاجة بعد أن كان كتاب إقليدس مُعجزًا لسائر المهندسين، إذ لم يحدثوا أنفسهم بتغيير نظام أشكاله، ولا بالاستغناء عن بعضها، كل ذلك في هذه السنة، أعني الثامنة عشرة من مولدي. واتصلت تصانيفي في هذه العلوم منذ تلك السنة وإلى الآن، وفتح الله عَلَيَّ كثيرًا ممَّا ارْتُجَّ[5] على مَن سبقني من الحكماء المبرَّزين”[6].
إقرأ أيضا:يوحنا بن ماسويه – الطبيب النابغةويروي القفطي في (إخبار العلماء) هذا النبوغ فيذكر أنه “قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وَكَانَ عدديًّا هندسيًّا حقيقيًّا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مصنفات رأيت منها كتاب المثلث القائم الزاوية، وَقَدْ أحسن فِي تمثيله وتشكيله وعدة صوره ومبلغ مساحة كل صورة منها، صنفه لرجلٍ من أهل حلب يدعي الشرف، وصنف منبرًا فِي مساحة أجسام الجواهر المختلطة لاستخراج مقدار مجهولها”[7].
وفي خضمِّ هذه الإنجازات كان يحقق إنجازاته في علم الطب، فيقول: “وفي خلال ذلك ليس لي مكسب إلاَّ بصناعة الطب، وكان لي منها أوفر حظٍّ؛ إذ أعطاني الله من التأييد فيها ما عرفت به كل مرض يقبل العلاج من الأمراض التي لا علاج لها، فما عالجت مريضًا إلاَّ وعُوفِيَ، وما كرهت علاج مريض إلاَّ وعجز عن علاجه سائر الأطباء، وكفُّوا عن تدبيره (أي: توقفوا عن المحاولة)، فالحمد لله على جزيل نعمته وفضله”.
وكان السموءل صاحب مدرسة طبية متفردة، سار عليها أولاده من بعده، كما يذكر القفطي في ترجمته.
وكان للسموءل باعٌ كذلك في علم الصيدلة، فإنّ رحلاته الكثيرة من المغرب الإسلامي إلى المشرق، أطلعته على مؤلفات جديدة لعلماء الأمصار ممن قبله ومن معاصريه على طول تلك الرقعة الواسعة للعالم الإسلامي، فلم تفلتها عقلية السموءل المتوقدة التحليلية، فصنعت منها أنواعًا جديدة من الأدوية، كان أبرزها هذا الدواء الذي سماه “المُخَلِّص ذا القوة النافذة”، ولنسمعه يروي فيقول: “واتَّضح لي بعد مطالعة ما طالعته من الكتب التي بالعراق والشام وأذربيجان[8] وكوهستان[9]، الطريقَ إلى استخراج علوم كثيرة، واختراع أدوية لم أعرف أني سُبقت إليها؛ مثل: الدردياق الذي وسمته بالمخلِّص ذي القوة النافذة، وهو يُبرئ من عدَّة أمراض عسيرة في بعض يوم، وغيرها من الأدوية التي رَكَّبتها، ممَّا فيه منافع وشفاء للناس بإذن الله تعالى”[10].
إقرأ أيضا:ابن الكحال – مؤسس طب العيونوهكذا، نبغ السموءل في كل هذه العلوم، وظلَّ الطب صُلب عمله، وأحد فروع نبوغه، حتى عمل طبيبًا لبيت البهلون، وهم أمراء أذربيجان في ذلك الوقت[11].
ومن العلوم التي شُغِف بها وأحبَّها وتوفَّر عليها أيضًا علم التاريخ، وكان ما عرفه واكتسبه من تاريخ الوزراء والكتاب هو الذي أكسبه بلاغة وفصاحة وبيانًا، ومنذ تلك اللحظة “شاهدت المعجزة التي لا تباريها الفصاحة الآدمية في القرآن، فعلمت صحة إعجازه”[12].
رؤيا النبي وقصة إسلامه
وبعقله هذا الوقَّاد دخل من علم التاريخ إلى التفكير فيما نسميه اليوم علم مقارنة الأديان: الإسلام واليهودية والمقارنة بينهما، يقول: “راجعت نفسي في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب”. واهتدى -بعد فترات من الحيرة الفكرية- إلى الإيمان بالإسلام وخلع اليهودية، ثم أعقب هذا فترة من الحيرة “الاجتماعية” إن جاز التعبير، في إشهار هذا الإسلام، وظلَّ في هذه الحال سنينًا تتوَّق نفسه لأن يُسْلِمَ، ولكنه لا يجرؤ على هذا القرار خشيةَ أن يَفجع به أباه، فظلَّ متردِّدًا حتى باعدت الأسفار بينه وبين أبيه، ثم حسم الأمر عنده رؤيا رآها في المنام للنبي محمد r، فأسلم من صبح هذا اليوم.
يحكي السموءل قصة إسلامه فيقول بعد سرد المقدمات التي أفضت به إلى التصديق بنبوة المصطفى r: “فمكثت برهة أعتقد ذلك، من غير أن ألتزم الفرائض الإسلامية؛ مراقبة لأبي، وذلك أنه كان شديد الحب لي، قليل الصبر عني، كثير البر بي، وكان قد أحسن تربيتي… فمكثت مدة طويلة لا يُفتح عليَّ وجه الهداية، ولا تنحل عني هذه الشبهة، وهي مراقبة أبي، إلى أن حالت الأسفار بيني وبينه، وبَعُدت داري عن داره، وأنا مقيم على مراقبته، والتذمم من أن أفجعه بنفسي.
وحان وقت الهداية وجاءتني الموعظة الإلهية، برؤيتي للنبي r في المنام، ليلة الجمعة، تاسع ذي الحجة، سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمائة، وكان ذلك (بمراغة) من أذربيجان”[13]… ثم مضى السموءل يحكي رؤياه.
استيعاب إسلامي
وهكذا، وبعد أن كان السموءل بن يهوذا، اليهودي المغربي، جنديًّا في كتيبة الحضارة الإسلامية، ودليلاً في كتابها، وحرفًا من تاريخها، يشهد بأنها الحضارة الإنسانية المتفوقة التي لم تلتبس بأي حساسيات تجاه الأعراق والأجناس والألوان واللغات، بل احتضنت كل هؤلاء في كنفها، وأرخت عليهم جميعًا ظلالها، واستوعبت كل هذه الطاقات المختلفة المناهل والمشارب، ووفرت لهم فرص الصعود والتعلم والنبوغ، بل والعمل في قصور الأمراء وبيوت الملوك، نقول: بعد أن كان السموءل دليلاً يشهد لهذا، انتقل من جندي في كتيبة الحضارة الإسلامية ليكون جنديًّا في كتيبة الإسلام نفسه، فيكون دليلاً للعقول المتقدة يثبت أن هذا الدين هو الدين الحق.
إن هذا الاستيعاب الذي تميزت به الحضارة الإسلامية، كان عنصرًا من إسهاماتها في الحضارة الإنسانية، تلك الإسهامات التي شرحتها بتوسع في كتابي (ماذا قدم المسلمون للعالم)، وهذا العنصر هو الذي لم تستوعبه الحضارة الغربية إلا مؤخرًا، فلم تستوعبه حتى في أوائل عصور ازدهارها العسكري ثم الحضاري، وقد سمعنا مؤخرًا كيف صعد مواطن ملوّن من أصل إفريقي إلى أكبر موقع في الولايات المتحدة ليكون رئيسًا لها، ثم كيف يعيِّن بعدئذ مستشارة مسلمة محجبة لشئون العالم الإسلامي، وكذلك اختياره لعالم الكيمياء المصري المسلم أحمد زويل ليكون ضمن فريقه الاستشاري العلمي الخاص، وكثير ممن يجهلون تاريخنا يعيِّروننا بهذا وكأنه اكتشاف أمريكي خالص لم يسبق أن تقدم به أحدٌ قبلهم، فضلاً عن أن يكون هؤلاء هم المسلمون أيام عزتهم الحضارية، حين صنعوا الحضارة الإنسانية التي لا تفرق بين لون ولون، ولا فضل فيها لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى قصة عالمنا السموءل، إذ انطلق بعد أن أشهر إسلامه (يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة عام 558هـ/ 1162م)، وهو الإشهار الذي ارتجَّت له المراغة، وضجّ المسجد في صلاة الجمعة بالصلاة على النبي فرحة بإسلامه، ثم كانت الخطبة في مدحه والثناء عليه، وهو ما يدلُّنا على أن إسلام السموءل كان بعد نبوغه وذيوع أمره، خاصة أنه مات بعد اثتني عشرة سنة عام (570هـ/ 1174م).
إفحام اليهود وذكاؤه المتوقد
وألَّف السموءل بعدئذ كتابه (إفحام اليهود)، وهو الكتاب الذي صار مرجعًا في الردِّ على اليهود إلى يومنا هذا، وهو فريد في بابه، ردَّ فيه على اليهود بطريقتهم، وكيف لا وهو ابن حَبْر لم يكن في زمانه مثله، وأُمُّه من النجيبات العالمات، وهما معًا اهتمَّا بتعليمه علومَ التوراة، ولم يتركاه يتعلَّم شيئًا حتى استكملها، وذاع الكتاب وانتشر في حياته، وكانت له مناظرات كثيرة قوية[14].
ويصفه الصفدي بقوله: “وكان يتوقَّد ذكاءً”[15]. وهو الوصف الذي يُقَرِّره الذهبي[16]، وعامة المترجمين يُقَدِّمُون نبوغه في الرياضة والجبر والحساب، ويغلب عليه أن يُعرف بهذا، ولربما كُنَّا لم نعرف بما حقَّقه من نبوغ طبي لو لم يكتب سيرته بنفسه، فنتبيّن منها هذا الشغف والحرص والنبوغ الطبي، فقد ترك السموءل تراثًا علميًّا كبيرًا، وهذا ليس بمستغرب مع مَن كان في مثل ذهنه وموسوعيته؛ فقد بلغت مصنفاته خمسة وثمانين مصنَّفًا ما بين كتاب ورسالة ومقال[17]، ومن أهم كتبه في الطب كتاب (المفيد الأوسط في الطب) صنَّفه ببغداد للوزير مؤيد الدين أبي إسماعيل الحسين بن محمد بن الحسن بن علي سنة (564هـ/ 1169م)، وفي غير الطب: كتاب (الباهر في الجبر)، وألَّفه في التاسعة عشرة من عمره، وكتاب (إعجاز المهندسين)، وكتاب (القوامي في الحساب الهندي)، و(المثلث القائم الزاوية)، و(المنبر في مساحة أجسام الجواهر المختلطة لاستخراج مقدار مجهولها)، وغيرها[18].
د. راغب السرجاني