الإفك لغة
مصدر قولهم: أفك يأفك وهو مأخوذ من مادة (أف ك) التي تدل على قلب الشيء وصرفه عن جهته، يقال:
أفكت الرجل عن الشيء إذا صرفته عنه، قال تعالى: قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا (الأحقاف/ 22) استعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف لهم من الحق إلى الباطل، واستعمل ذلك في الكذب مطلقا. والمؤتفكات: الرياح التي تختلف مهابها، أو التي تعدل وتنصرف عن مهابها، والمؤتفكات (أيضا) المدن التي قلبها الله على قوم لوط عليه السلام، والإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يستحق أن يكون عليه، وقول الله- عز وجل- قاتلهم الله أنى يؤفكون (المنافقون/ 4) معناه كما يقول الراغب- يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، وقول الله سبحانه:
أإفكا آلهة دون الله تريدون (الصافات/ 86) يصح أن يكون تقديره: أتريدون آلهة من الإفك، وأن يكون قد سمى الآلهة إفكا، قال القرطبي:ويجوز أن يكون معناه: أتريدون آلهة من دون الله آفكين «1» .
ويقال: رجل مأفوك أي مصروف من الحق إلى الباطل وعن العقل إلى الخيال، ومن ذلك ما جاء في حديث عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على قبائل العرب «لقد أفك قوم كذبوك..» أي صرفوا عن الحق ومنعوا منه.
إقرأ أيضا:قطيعة الرحمقال الجوهري: الإفك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الأفائك، والأفك بالفتح مصدر قولك أفكه يأفكه، والمأفوك: المأفون هو ضعيف العقل والرأي، ورجل مأفوك (أيضا) لا يصيب خيرا، وأرض مأفوكة: لم يصبها مطر وليس بها نبات، وقال ابن منظور: يقال: أفك يأفك وأفك يأفك إفكا وأفوكا وأفكا وأفكا إذا كذب.
وأفك الناس: كذبهم، وحدثهم بالباطل.
والإفك: الكذب، والإثم، وجمعه الأفائك، والأفك- بالفتح- مصدر قولك أفكه عن الشيء يأفكه أفكا، صرفه عنه وقلبه، وفي التنزيل يؤفك عنه من أفك، قال الفراء: يريد: يصرف عن الإيمان من صرف.
الإفك اصطلاحا
قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب «2» .
وقال النيسابوري: الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل هو: البهتان «3» .
وقال المناوي: الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه «4» .
وقال ابن كثير: الإفك: الكذب والبهت والافتراء «5» .
من معاني الإفك الواردة في القرآن الكريم
أحدها: الكذب، ومنه قوله تعالى في الأحقاف: فسيقولون هذا إفك قديم «6» ، وفيها وذلك إفكهم «7» . والثاني: الصرف، ومنه قوله تعالى في الأحقاف: أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا «8» ، وفي الذاريات يؤفك عنه من أفك «9» ، ومثله فأنى تؤفكون* «10» أي: تصرفون عن الحق.
إقرأ أيضا:القذفوالثالث: القلب، ومنه قوله تعالى في براءة:
والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات «11» ، قال الزجاج: المؤتفكات جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت. وفي النجم: والمؤتفكة أهوى «12» .
والرابع: السحر، ومنه قوله تعالى في الأعراف والشعراء فإذا هي تلقف ما يأفكون* «13» .
والخامس: القذف، ومنه قوله تعالى في النور إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم «14» ، والمراد به: قذف عائشة- رضي الله عنها- «15» .
[للاستزادة: انظر صفات: الأذى- الإساءة الافتراء- البهتان- الكذب- شهادة الزور- النميمة.
وفي ضد ذلك: انظر صفتي: الصمت وحفظ اللسان- الاستقامة- الأمانة- الأدب] .
الآيات الواردة في «الإفك»
1- ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) «1»
2- إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) «2»
3- قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) «3» 4- وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) «4»
إقرأ أيضا:الزنا5- قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) «5»
6- إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) «6»
7- وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤ ظلما وزورا (4) «7»
8- قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) «8»
9- هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223) «9»
10- وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) «1»
11- ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) «2»
12- ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55) «3»
13- وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) «4»
14- يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) «5»
15- وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أإفكا آلهة دون الله تريدون (86) «6»
16- ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) «7»
17- الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63) «8»
18- ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) «9»
19- ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) «10»
20- وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) «1»
21- فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28) «2»
22- إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (4) «3»
الأحاديث الواردة في ذم (الإفك)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة، وكان نبي الله موسى- عليه السلام- منه الحياء والستر، وكان يستتر إذا اغتسل، فطعنوا فيه بعورة، قال: فبينما نبي الله موسى- عليه السلام- يغتسل يوما وضع ثيابه على صخرة فانطلقت الصخرة بثيابه فاتبعها نبي الله ضربا بعصاه وهو يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى انتهى به إلى ملأ من بني إسرائيل وتوسطهم فقامت، وأخذ نبي الله ثيابه فنظروا فإذا أحسن الناس خلقا، وأعدلهم صورة، فقالت بنو إسرائيل: قاتل الله أفاكي بني إسرائيل، فكانت براءته التي برأه الله- عز وجل- بها» ) * «1» .
2-* (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا، أقرع بين نسائه. فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه مسيرنا.
حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه، وقفل «2» ، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل. فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار «3» قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا، لم يهبلن «4» ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة «5» من الطعام.
فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت «6» منزلي الذي كنت فيه. وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني قد عرس «7» من وراء الجيش فأدلج «8» فأصبح عندمنزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني.
فخمرت وجهي بجلبابي، وو الله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه.
حتى أناخ راحلته، فوطيء على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة. حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة «1» .
فهلك من هلك في شأني.
وكان الذي تولى كبره «2» عبد الله بن أبي بن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك. وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي.
إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟» فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر.
حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع «3» وهو متبرزنا.
وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا.
وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه «4» .
وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم ابن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق.
وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد ابن المطلب.
فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا.
فعثرت أم مسطح في مرطها «5» قالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت. أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟.
قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا إلى مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم قال: «كيف تيكم؟» قلت:
أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت، وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه! ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية، هوني عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة «6» عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا كثرن عليها. قالت: قلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ «7» لي دمع ولا أكتحل بنوم «8» ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي «9» يستشيرهما في فراق أهله.
قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود.
فقال: يا رسول اللههم أهلك ولا نعلم إلا خيرا.
وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير.
وإن تسأل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه «1» عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن «2» فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
فاستعذر «3» من عبد الله بن أبي ابن سلول. قالت:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا. وما كان يدخل على أهلي إلا معي» .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال:
أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن اجتهلته الحمية «4» فقال لسعد بن معاذ: كذبت. لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله.
فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت. لعمر الله لنقتلنه. فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان: الأوس والخزرج «5» حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك. لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.
وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها. فجلست تبكي.
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسلم ثم جلس. قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال:
«أما بعد. يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت الممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه» قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي «6» حتى ما أحس منه قطرة.
فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال:
والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي:
أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت، وأنا جارية حديثةالسن، لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني، والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة، لتصدقونني، وإني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا، والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن، والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى.، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله- عز وجل- في بأمر يتلى.
ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فو الله ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله- عز وجل- على نبيه صلى الله عليه وسلم.
فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «2» عند الوحي.
حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان «3» من العرق، في اليوم الشات، من ثقل القول الذي أنزل عليه.
قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال:
«أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك» فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله.
هو الذي أنزل براءتي. قالت: فأنزل الله- عز وجل-: إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم (النور/ 11) عشر آيات. فأنزل الله- عز وجل- هؤلاء الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكر: وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله- عز وجل-:
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى (النور/ 22) إلى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك:
هذه أرجى آية في كتاب الله. فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري «ما علمت؟ أو ما رأيت؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري. والله ما علمت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني «4» من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها «5» فهلكت فيمن هلك) * «6» .
الأحاديث الواردة في ذم (الإفك) معنى
انظر صفة الكذب وشهادة الزور
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذم (الإفك)
1-* (حدث سعيد بن وهب قال: كنت عند عبد الله بن الزبير فقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال: صدق. ثم تلا هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم (الشعراء/ 221- 222) * «1» .
2-* (قال ابن كثير في قوله تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم: أي كذوب في قوله، فاجر في أفعاله فهذا الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة) * «2» .
3-* (قال ابن جرير الطبري: يقول تعالى ذكره: هل أنبئكم أيها الناس على من تنزل الشياطين من الناس تنزل على كل أفاك يعني كذاب بهات أثيم «3» .
4-* (قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى لا تحسبوه شرا لكم أي يا آل أبي بكر بل هو خير لكم (النور/ 11) أي في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- حيث أنزل براءتها في القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (فصلت/ 42) ، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس- رضي الله عنهما وعنها- وهي في سياق الموت قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحبك، ولم يتزوج بكرا غيرك، ونزلت براءتك من السماء) * «4» .
5-* (وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب والذي تولى كبره منهم، قيل: الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه له عذاب عظيم أي على ذلك، ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هوعبد الله بن أبي ابن سلول قبحه الله ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد) * «1» .
6-* (وقال ابن جرير: عن محمد بن عبد الله ابن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب- رضي الله عنهما- فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب: يا عائشة ما قلت حين ركبتيها؟، قالت:
قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، قالت: قلت كلمة المؤمنين) * «2» .
7-* (عن مسروق قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها- فدخل حسان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك، وفي رواية قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم قالت: وأي عذاب أشد من العمى، وكان قد ذهب بصره، لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم، ثم قالت: إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعرا يمتدحها به فقال:
حصان رزان ما تزن بريبة … وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت: أما أنت فلست كذلك، وفي رواية: لكنك لست كذلك) * «3» .
من مضار (الإفك)
(1) يشيع الفساد في المجتمع.
(2) دليل الرقة في الدين وعدم الخوف من رب العالمين.
(3) يقطع أواصر الأرحام، ويمزق الأسر.
(4) به تنتهك الأعراض.
(5) يورث بغض الله والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.