من أعمال اليهود الشائنة التي سجلها القرآن الكريم ما جاء في قوله سبحانه: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} (النساء:51). حديثنا عن سبب نزول هذه الآية.
جاء في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه النسائي في “السنن الكبرى” عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما قَدِمَ كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه -الأبتر من الناس: من لا عَقِبَ له، ومن لا خير فيه، والحقير الذليل- يزعم أنه خير منا؟ ونحن -يعني: أهل الحجيج وأهل السدانة- قال: أنتم خير منه، فنزلت: {إن شانئك هو الأبتر} (الكوثر:3) ونزلت: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) إلى قوله: {فلن تجد له نصيرا} (النساء:51-52).
وقد روي هذا الحديث من غير وجه، عن ابن عباس، وجماعة من السلف. وذكر ابن كثير أنه في “مسند” أحمد، ولم نقف عليه، ورواه الطبري موصولاً عن ابن عباس. وأخرجه ابن حبان في “صحيحه” كما في “موارد الظمآن”، ورجاله رجال الصحيح.
إقرأ أيضا:من أهل الكتاب أمة قائمةورواه سعيد بن منصور في “سننه”، وابن أبي حاتم في “تفسيره”، والواحدي في “أسباب النزول” ثلاثتهم عن عكرمة مرسلاً.
وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث، وجعلوه سبب نزول هذه الآية، منهم: الطبري، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والطاهر بن عاشور.
والظاهر، أن الصحيح في السبب المذكور أنه مرسل، لكنه يقوى بأمرين:
الأول: مطابقة السبب المذكور للفظ الآية؛ فإن القائل في الآية من {الذين أوتوا نصيباً من الكتاب}، والرجل المذكور في الحديث كعب بن الأشرف اليهودي. وقوله: {ويقولون للذين كفروا} هو قوله لكفار قريش: أنتم خير من محمد.
وقوله تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} هم اليهود، كما أخبر الله عنهم بقوله: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} (المائدة:60).
الثاني: أن هذا السبب قد قال به جمهور المفسرين، واعتمدوه سبباً لنزول الآية، ولا ريب أن اجتماع المفسرين على قول كهذا، مع ما يحتف به من قرائن، يوجب غلبة الظن أن للحديث أصلاً.
إقرأ أيضا:وما كان لنبي أن يغلوالحاصل، فإن الحديث المذكور، وإن كان مرسلاً، فإن قرائن السببية تحيط به، وذلك لموافقته للفظ الآية، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به على النزول.
وقد قال الطبري: “إن الله وصف {الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة، والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك”.
إقرأ أيضا:فإن خير الزاد التقوىوقال ابن كثير: قوله: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} أي: يفضلون الكفار على المسلمين، بجهلهم وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم.